حصدت جائزة البوكر العربية للرواية 2022… «خبز على طاولة الخال ميلاد» لليبي محمد النعّاس: السلطة وملامحها السياسية والاجتماعية

2022-05-26

محمد عبد الرحيم

فازت مؤخراً رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» للكاتب الليبي محمد النعّاس، بجائزة البوكر العربية للرواية، في دورتها الخامس عشرة لعام 2022. متقدمة على الروايات الخمس التي وصلت معها إلى القائمة القصيرة، التي أعلن عنها مسبقاً، وهي.. «ماكيت القاهرة» طارق إمام مصر، «دلشاد.. سيرة الجوع والشبع» بشرى خلفان عُمان، «يوميات روز» ريم الكمالي الإمارات، «الخط الأبيض من الليل» خالد النصرالله الكويت، و»أسير البرتغاليين» محسن الوكيلي المغرب. وتكونت لجنة التحكيم بمشاركة كل من الكاتبة اللبنانية إيمان حميدان، الأكاديمية والمترجمة البلغارية بيان ريحانوفا، الشاعر والمترجم الليبي عاشور الطويبي، والشاعرة والناقدة الكويتية سعدية مفرح. وترأس لجنة التحكيم الروائي التونسي شكري المبخوت.

حيثيات الجائزة

حسب الصفحة الرسمية للجائزة جاءت كلمة شكري المبخوت، موضحة أن الرواية الفائزة «قامت على استعادة تجربة شخصية في ضرب من الاعترافات، التي نظّم السرد المتقن المشوّق فوضى تفاصيلها ليقدّم نقداً دقيقاً عميقاً للتصوّرات السائدة عن الرجولة والأنوثة وتقسيم العمل بين الرجل والمرأة وتأثيرهما النفسي والاجتماعي». كما أضاف ياسر سليمان رئيس مجلس أمناء الجائزة، قائلاً: «تسرد رواية خبز على طاولة الخال ميلاد قصة حياة شخصيتها الرئيسية، ميلاد، في علاقاتها التي تتقاطع، بتوتّر جندري، مع محيطها الاجتماعي بكل توقّعاته المتوارثة في المجتمع الليبي في النصف الثاني من القرن العشرين… وما يميز هذا النص الروائي الماتع الجرأة في السرد، والاقتصاد فيه، والانفتاح على مسارات من القص لا توصد الأبواب، وتدفّق اللغة التي تنساب الفصحى في عروقها بألق لا مبالغة فيه؛ للتعبير عن خبايا الروح والجسد بلا تكلّف أو ابتذال».

عائلة وخالها ميلاد

نأتي أولاً للمثل العجيب الذي سنّه الليبيون مؤخراً.. (عائلة وخالها ميلاد) والذي أشار إليه كاتب الرواية نفسه، ناسجاً من خلاله قصة هذا الرجل ومأساته. فالمثل يطول المرأة وزوجها، أو ولي أمرها بشكل عام، فهو يُشير للفتيات الخارجات عن سلطة المجتمع، وكذلك الرجل الذي يتحدث عن حقوق المرأة والحرية والمساواة بين الجنسين، وصولاً إلى الشراكة الزوجية. وبذلك فالخال ميلاد خطر على هُوية الرجل وصورته، فهو الرجل الذي يطبخ للمرأة ويرقص معها ويغني لها ويكوي ملابسها ويغسل الأواني وينصت لها ويبكي لجرحها وآلامها، كما يشجعها على التحرر من سلطة المجتمع، لا لكونه مغلوباً على أمره، بل لأنه مقتنع بما يفعله… فالخال ميلاد هو الرجل العار. الرجل الضد. صورة لما يخافه الجميع، وكأنه الصورة الوحيدة التي اتفق الليبيون على أنّها لا تمثل الرجل الليبي. (راجع.. محمد النعّاس، رصيف 22 في 22 فبراير/شباط 2021).

الملاحظ أن الأمر لا يقتصر على المجتمع الليبي وحده، لكنه يمتد إلى المجتمعات العربية كافة، بنسبة أو بأخرى، حتى مَن يتغاضى عن هذه الأحكام والأوصاف، ويتهمها بالرجعيّة والتخلف، إلا أنه عن الاختبار من خلال موقف أو ما شابه، يعود إلى هذه العقلية الجمعية، ويتحدث بصوتها، حالة فصام لا شفاء منه يضرب أغلب المتحررين، أو الذين ينادون ليل نهار بحرية المرأة ومساواتها المطلقة بالرجل.

سلطة اجتماعية

«إن مزاجي مربوط دائماً بالخبز. لم أرتبط بأيّ شيء آخر في حياتي بأكملها كما فعلت معه». (الرواية) من خلال مهنة صانع الخبز يتخذ الكاتب محمد النعاس تفسيرا نفسيا واجتماعيا لحياة شخصيته الرئيسية (ميلاد) انطباعاتها وسلوكها تجاه الناس والمجتمع من حوله، وكذلك علاقته بزوجته (زينب) الفتاة الجامعية التي ارتضت أن تتزوج من ميلاد، رغم الفارق الاجتماعي بينهما، أملاً في حرية مفقودة تحاول إيجادها من خلال هذا الرجل المختلف، الذي يقوم بالأعمال المنزلية ويتركها لتغادر المنزل للعمل، بل بعد مماطلة يسمح لها بارتداء البكيني على شاطئ البحر، حيث لا يكون سواهما على الشاطئ. لكن.. كيف ستكون نظرة الناس إلى هذا الرجل، الذي في عُرفهم لا يمتلك شيئاً من مقومات الرجولة التي يضعونها ويفترضونها كتعريف ومفهوم للرجولة. «إذا دخلت المطبخ لأبدأ العجن، أصبغ مخاوفي، سعادتي، طموحاتي، مطامعي، رغباتي، حزني، كآبتي، شهوتي، دموعي، شكوكي، لهفتي، اطمئناني، سكينتي، روعي، قلقي وجفافي في رغيفي الذي يظهر بشكل تلك المشاعر. الرغيف السعيد مرحٌ، الرغيف الكئيب كجثّة قنفذ، الرغيف الخارج من سكينة يديَّ يخرجُ هادئا، يمتصّ الخبزُ مشاعري ويجسّدها أمامي. كنتُ آكل رغيف الكآبة ناسيا إضافة الملح إليه، ورغيف الشهوة بملح زائد، ورغيف الشكّ قاسيا وجلفا. تأثّر اختياري الرغيفَ الذي أعمل عليه بمزاجي العام، كما تأثّر عملي في الخبز بفصول السنة». (الرواية)

حالات الراوي المختلفة هنا يجسدها هذا المقطع، فالخبز وحده هو الذي يكشف حالة الرجل، ولا يوجد تواصل تام إلا مع الخبز ومكوناته. لكن هناك محاولات للإفلات من هذه الرعونة التي يوصف بها المجتمع ميلاد، وكان الملاذ هو محاولة الانتحار، فهناك شعور دفين بالنقص، يحاول ميلاد تجاوزه طوال مراحل حياته، ويفشل فيه دوماً. فالعلاقات الاجتماعية وثوابتها أقوى من هذه التحديات الفردية التي يقوم بها ميلاد على أرض الواقع، والتي تبدو في الكثير منها غريبة عنه، ولا تعد من شخصيته الأصلية، شيء أشبه بالحلم والواقع الذي يعيشه بالفعل، ولعل العجوز التونسي الذي استضافه وزوجته زينب عند قضاء شهر العسل في تونس قد أوضح له ذلك في جلاء.. «لا تبدو لي رجلاً متحرراً، تبدو كشاب ترعرع على تقاليد المجتمع، وأراها مندفعة نحو التحرر».

تثير الحكاية العديد من الأسئلة التي ربما لن تخرج منها المجتمعات العربية في وقت قريب، لم تزل الأعمال تدور حول السلطة وأشكالها، سياسية واجتماعية، وبينهما الفرد التائه والضائع على الدوام، والذي في محاولاته النجاة يُجسد الحالة المثالية للبطل الدرامي، الذي عليه مواصلة المواجهة مع شخوص وخرافات وموروثات بالية. فالتحرر لا يقتصر على المرأة فقط، ولن تصبح بدورها هي محل النضال، بل الرجل والمرأة على السواء، في ظل أنظمة تسلطيّة، لا تأبه لأحد، وأنظمة اقتصادية في دول أخرى تبدو من بعيد متقدمة، لكنها في الوقت نفسه تعاني، ولو بشكل آخر من أشكال المعاناة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي