ما كتبه على حجر البهت

2022-05-24

عاشور الطويبي

دفتر شجرة الزيتون

لشجرة الزيتون دفترٌ؛ فيه تاريخ الزيت وتاريخ الساقية.

سبع آيات وضعها المسافر، على رمل الشاطئ.

سبعة وشوم وضعتها العجوز، على دانتيلا العروس.

في الصفحة العشرين: 

نزلتْ على مهل من هضبة العشّاق،

رشّتْ بالورد والزنبق فمَ الوليد وفمَ الوليدة.

في الصفحة الخمسين:

كلّ الذين ذهبوا إلى الحرب ماتوا، كتبوا أسمائهم على حجر غرانيت

وتركوا أحزانهم تمحوها الريح والمطر. 

الريح عادت في الصفحة المائة:

مجروحة ومنهكة بلا ذاكرة ولا لسان.

■ ■ ■

أصداف على الرمل

عيون قناديل البحر تتبع الحيتان إلى كهوفها.

تبصرُ لها كيف تقبض الأصداف على رمل وكيف تبيض أسماك السلمون في منحدر الماء

تبصرُ لنا متى نُقلع عن خمرة الأعناب وعن عري الحكايات المنسيّة.

هذا جدارنا وذاك جدارها ولا باب!

في نوم الأعشاب، الأحلام القاتمة تقترب من سدود الكلام.

في راحة الصيّاد، مسْكَنُ الحجارة المثقوبة وأُغنياتها، سرب حمام يحلّق وديك يصيح فوق مزبلة.

تقدّمْ أو عُدْ إلى حيث يهدأ ماء النبع أو يتلظّى بناره القمر.

لقد وضعوا الميت على خشب وأوقدوا النيران.

لقد وضعوا الحيّ على حرف ووقفوا ينظرون إلى الزلزلة.

لقد كان كلّ واحدٍ يحمل في يده مرآة.

لقد كانت الرؤوس تغطّي ساحة الأبطال!

■ ■ ■

فراشات وحشية

الظِلّ، هذا التابع الأخرس، ضعيفٌ وهشّ،

يمكنك أن تمرّر يديك عبره وفي العتمة يهرب في رمشة عين.

 

النور، هذا البصّاص الأخرق، يفتح الناس له بيوتهم.

لا ينهض من مكانه، الرغبات الوحشية تأتيه.

الأيام تخرج من ياقة قميصه، مثلما تخرج الفراشات من شرانقها المعلّقة على الأشجار.

لا يوجد الكثير ليُقال عن الأشياء والكائنات.

لا الشعر يقدرُ، لا الغناء، ولا الأحلام!

هي نفخة تدوم في الهواء، كما يحدث الآن تمامًا.

لا تفكّر في الأمر كثيرًا،

انظر أمامك وامضِ إلى كينونة شاحبة!

■ ■ ■

الشجرة تعرف

صوتٌ أو لعلّها ضغطة يدٍ خفيّة ما يُسقط أوراق الأشجار.

الشجرة تعرف وهي تقف قبالة الشمس والليل والريح.

الشمس تأخذ دفئها، الليل يأخذ وحشته،

أمّا الريح، تضع سريراً تحت كلّ ورقة، فلا جراح ولا نزف ولا دموع!

بعضنا يسميها حلقة الخلود،

بعضنا يسمّيها لهب الطين يذهب إلى جمرته،

آخرون يقولون إنها رغبات نويرات تنوء بالأسرار،

آخرون يقولون لا، لا هذا ولا ذاك.

انظر تحت قدميك،

إنْ رأيتَ عشبة فتلك صيحة روحك،

إنْ رأيت حجراً فذلك صيحة قلبك المقهور،

إنْ لم ترَ شيئاً فأنت في البرزخ لا تعلم أيّ أرض هبطت!

اجمع خرافك يا راعي الشهوات،

خذها إلى الحقل وخذ مقعدك فوق الصخرة العالية.

■ ■ ■

ثوب الزمان

أهكذا، إذاً، تقبض على الريح؟

نحيك لها ثوبًا مثلما نحيك للزمان ثوبًا.

وكيف يكون ثوب الزمان؟

له رقّة السعف وعبق العشب البرّي،

البراعة ليست في الإبرة أو المخيط،

بل في طرح الأنفاس في الخلاء في ليلة مُقمِرة،

ثم نسقيها بما ينزّ من أشجان الحجارة ساعةً قبل الفجر،

ثم نضعها على سلك أوّله في جبل النحاس،

آخره، لا أحد يعلم آخره،

ثم نتركه حتى يجفّ، ثم ننخله بين ساقَيْ امرأة حبلى،

ثم نأخذه فنطحنه على مهل بين حجري غرانيت،

نصعد به إلى بيت في أعلى الجبل،

نتركه حتى تأتي الريح فتنسفه نسفًا،

نجمع ما تساقط منه،

نغطّيه بقطن مصريّ نغرز فيه الإبر،

نحسب كم إبرة،

بعددها نحسب الزمان!

■ ■ ■

الغرفة العالية

كنتُ أقفز في الماء وكانت تقفز في الماء.

كنتُ أحمل على ظهري قمر أغسطس وكانت تحمل بين يديها دانتيلا الغياب.

مَنْ قطع جسد اليوم وأخفى أسماء الكائنات؟

كنتُ في الساحة أرفع يديّ عاليًا وكانت تطلّ من نافذة الغرفة العالية.

أين أضع كلّ هذه الآهات؟

تحت أشجار الطلح أم في فم الذئب أم في رغوة ماء فوّار؟

كنتُ أقتفي أثَر سارق النار على كثبان القبائل وكانت تمسحُ بشفتين أثَر قبلة وحشيّة.

لقد أينعت أزهار الخروب وأنا الغريب، عطشانُ نعسان!

■ ■ ■

الرمّان الضاحك

الغريب يحمل شمساً على صليبٍ.

في أطرافها قرى ومدنٌ، بيوت وشوارع وخلقٌ كثير.

يقف الغريب في كهف عميق.

أمامه تبرق الكلمات والأوهام وتحت قدميه يلتقي النهر مع حجر الضحك.

في غصن الشجرة قوس ونشّاب.

الرمل مبلولٌ بالدم الرمل، مبلولٌ بالفجيعة.

الشرطة جاءت، جاء المحقّقون، جلسوا أمام الغريب.

مسح الأطباء والمخبريّون جسده، أخذوا ما أخذوا ورحلوا.

لكنّه سقط على الأرض، ذوى كنفخة هواء في الخريف!

■ ■ ■

بيتها الزلزلة

"الأقدام تسبق الموسيقى"، يقول العجوز وهو ينزل المنحدر

انظر كيف ترقص الأشجار، كيف تميل كتِفا بائع الجيلاطي!

"هل تعلم لماذا يأخذ الغبار وقتًا حتى يصل الأرض؟"، يسأل العجوز تحت شجرة السدر.

عليه أن يعزف اللحن الأخير

عليه أن يرقص الرقصة الأخيرة.

الغبار لا يهدأ له حال،

الغبار حيواتٌ تعلق في الهواء رغبة في الانتحار.

بيتها الزلزلة وقفطانها درجات السلم الكبير

"حذائي البنّي هذا، اشتريته من بائع بصل؟"، يقول العجوز وهو يضحك.

■ ■ ■

وتر العشيّة

حياة الجدجد عالقة في وتر العشبة؛

إنْ تقدّم سقط سقف الليل، إنْ تراجع إلى الوراء!

تمتلئ الساحة بالراقصين والراقصات؛

غزل دافئ يغشى الأرواح، على مهل تقترب السكينة من الجالسة،

تمسح بقدمها الناعمة سطح الماء.

لنسمع عازف البيز!

بكاء حارق في اليدين الثقيلتين.

تميل الأحزان، مثلما تميل

ساعة الحائط تحتها سكران حيران يبتسم.

هات شريحة الجبن يا سائق الحافلة،

هات أنفاس الليل وجلبة النهار،

هات رعشات الجسر، رعشات الواقف على الجسر.

الليلة سيأتي القمر،

سيقف هناك وحيدًا حزينًا.

■ ■ ■

ألمٌ على جبين الشاعر

ألمٌ آخر، على جبين الشاعر الشاب!

أهكذا تسقط الشعارات في الساحات؟

لقد وقف أمام البحر طويلًا،

خطّ على الرمل أشجان القصيدة المستحيلة.

أخفاها حين مرّ الشرطي،

أخفاها حين مرّت سكرتيرة المحكمة

أخفاها على السلطعون الكبير والسلطعون الصغير.

ليت الكلمات كالأشجار تخرج أوراقها من الظلمات!

ليت حجارة البحر لم تكن شديدة القسوة!

ليتني أقدر أن أكون خاطف أحلام الجوعى المقهورين!

هذه القصيدة النحيلة،

سأقذف بها من أعلى سور المحكمة،

سأرمي بها على وجه الشرطيّ الكئيب

أو

لعلّي سأطعمها للسلطعونات النهمة!

■ ■ ■

البشارة

البشارة تأتي من فم طائر أخضر الجناحين.

للنملة الجديدة، أزهار الأقحوان غابة كبيرة.

عينُكَ حيث تضع قدمكَ.

هل ترى قفزة الضفدع

أم ترى نصل العشبة يلمع تحت الشمس؟

في الحلمِ الغابةُ رجالٌ ونساء وأطفال خائفون!

قد تأتيك البهجة في شكل إصبع حلوى

قد تأتيك في شكل نسمة باردة فوق دراجة هوائية

عينُكَ حيث يأخذك السماع.

الجدار يعلو حجرًا فوق حجر؛

هكذا يكون اللحن في البرّية: نغمة فوق نغمة أو تجعيدة فوق تجعيدة.

عينُكَ حيث تقبض بيدك على قطرة مطر.

الطين المبلول يرتجّ في قلب كمأة،

سيقان أزهار الأقحوان تميل تحت ثقل خيط ضوء نحيل.

■ ■ ■

كثيب الرمل

بيتي فوق كثيب رمل؛

يكثر على جانبيه السعف والحصى، أحلامه تتدحرج ناحية الشرق.

يروق لي، مثلما يروق للعابرين، أن نتوقّف ونرمي السور بحجر.

بيت الثائر على مقصلة؛

يكثر على جانبيها الصمت والأبدية الرشيقة.

يروق له، مثلما يروق للموتى، أن يتوقّفوا ويرموا السور بحجر.

بيت الشاعر على سنبلة؛

يكثر على جانبيها المرابون والجوعى.

يروق له، مثلما يروق للسكارى، أن يتوقفوا ويرموا السور بحجر.

شاعر ومترجم من ليبيا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي