احتضان اللهب.. فعاليات الدفاع وحماية الآثار العراقية

2022-05-10

جاسم عاصي

غيّب الموت وزير الثقافة العراقي السابق عبد الأمير الحمداني (1967 – 29 نيسان/ أبريل 2022) عن عمر 55 عاماً بعد صراع مع المرض. هنا قراءة للكاتب جاسم عاصي يتناول فيها كتاب الكاتب والمترجم أمير دوشي الموسوم بـ«احتضان اللهب/عبد الأمير الحمداني .. صوّر ومواقف».

صدر الكتاب في زمن كان يعاني الحمداني فيه من موت سريري. لذا توزعت فصوله على استحضار سيرته، وحصراً حول جهده في التنقيب وحماية الآثار العراقية، بعد أن ضحى بكل مسؤولياته الوظيفية، مراقباً وحامياً المواقع الآثارية. تناول جملة أحداث وحقائق ابتدأت منذ عام 2003 حيث ابتدأ الاحتلال الأمريكي الذي شمل في متغيراته كل مفاصل الواقع العراقي؛ اقتصادية، تربوية، إنتاجية كالزراعة والصناعة، وما وصلت إليه من ترد وضياع. كما خططت له ولاية (بريمر) وسارت وفقه كل الجهات ذات العلاقة. وهذه السيرة شملت بدقة ما قام به الحمداني لحماية المواقع الآثارية وما تعرضت له من عمليات نهب بشكل مخطط ومنظّم؛ ليس في ما يخص الآثار وحسب، بل شمل كل مفاصل الحياة العراقية عبر إلغاء وتعطيل فعاليات مفاصلها التي تنتظر الجهد والنشاط لتلافي ما تركته الأزمنة والحروب المريرة. وفي المحصلة النهائية كانت المتاجرة بالقطع واللُقى وتهريبها إلى خارج البلد من قبل عصابات تدربت جيداً على السرقة والانتفاع على أساليب التخريب والانتفاع المادي.

في تلك الحقبة جنّد الحمداني كل جهوده وفرّغ نفسه من الوظائف التي كان يشغلها. ولعل نهب المتحف في ذي قار كان أهم تلك الجريمة المنظمة، التي أدت إلى تخريب واسع. ولنحاول القيام بسياحة على ما ورد في الكتاب من حقائق مثيرة للجدل وتعمل على إيقاظ العقل الجمعي العراقي لمعرفة ما يجري حوله من تخريب متعمد استهدف إرثه وحضارته ومستقبله لصالح خارج البلد:

النهب

حدث هذا على مرآى الجميع ومن قبل رعاة ومزارعين مدفوع لهم الثمن، وعملهم لم يؤذ القطع الأثرية فقط من خلال النهب والبيع، بل ما تعرضت إليه المناطق تلك من حرث بآلات جارحة من معاول ومساح انتهكت ما احتفظت به بطون الأرض لآلاف السنين، فهي أرض بكر لم ينقب فيها، حيث تبعد عن مركز مدينة الناصرية بحدود (150) كيلومترا، وهي مناطق (خوخا وأُم العقارب) لكن الحمداني داهم هذه المجاميع وسلمهم إلى القوات الأمريكية (العسكر الآثاريون). وقد تضاعفت جهوده كما ذكر المؤلف، وكرس حيزاً واسعاً من الكتاب للشهادات المدعومة بالحقائق والأحداث. ومنها ما تعرض له الحمداني ودوشي من مصاعب، منها اختطاف أمير دوشي وتوقيف الحمداني، قامت بها حصراً عصابات النهب واللصوصية، لكن الإصرار بقي على أشده، لأنها كانت بدوافع وطنية خالصة. لم يثن إصرارهم عن فضح مثل هذه المحاولات البائسة، فقد توزعت جهودهما على مراقبة ما كان يجري، ومعرفة الجناة واسترداد الكثير من القطع الأثرية. إن الذي أنجزه الحمداني يضاهي جهود فريق كبير من المتخصصين وسط ظروف حرجة وخطرة لخلوها من الأمن وسيطرة الدولة.

حرق الكتب

ويورد المؤلف حدثاً جللاً أثناء مصادفة الحمداني وهو يجلس على الرصيف باكياً. وحين سأله عن السبب قال: حين دخل اللصوص إلى المتحف ولم يجدوا ما ينهبوه بعد أن سرقه أمثالهم المأجورين؛ عثروا على المكتبة، وما كان منهم استرداداً لفشلهم وعدم تقدير قيمة الكتب تلك؛ إلا أن أضرموا النار في الكتب الأثرية التي تحتويها مكتبة المتحف. وهي جريمة تفوق التصور، وأدت إلى خسارة معرفية كبيرة. كان السؤال المرير: كيف تحوّل أبناء هذا البلد إلى احتراف جريمة اللصوصية وعلى ملكية وطنهم وشعبهم وتسليمها إلى تجار ولصوص مقابل أموال بخسة لا تستر الخيانة العظمى؟ والأهم هو ما وصفه الكاتب وهو يشاهد نتائج اللهب، إنه رماد المعرفة! ويشبه هذا الحدث حرق كتب ابن رشد في قرطبة، وكتب عالم التحليل النفسي فرويد في برلين؛ وهو حرق وحظر للتفكير وفعالية العقل التي تصوغ الحياة من جديد. وبالتالي حجب نتاج العقل البشري كحرق مكتبة الإسكندرية الشهير. إن التشويه للوجود العراقي سار وفق منهج منظم ومحققة مفرداته بنتائج ترضي المستعمر وتغيض من لديه مشروع معرفي وثقافي وطني.

إن البيئة الجنوبية جغرافياً قد توفرت على مقومات التطور في الإنتاج المادي والمعرفي. فأرض الرافدين دجلة والفرات حاملة لمقومات الوجود الحضاري باقتدار.

التنقيب

سؤال واجه كل من سعى للتنقيب في أرض ومياه سومر مفاده: لماذا نشأت المدن في جنوب العراق في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد؟ حيث شكل البحث والتنقيب صيرورة (المشكلة السومرية) لما فيها من سعة وجود وثراء متجدد مع كل حملة تنقيب تبحث عن تراث حفظته الأرض قبل الإنسان. والأثري عبد الأمير الحمداني كان دؤوبا للإجابة على هذا السؤال مبكراً. وما سعيه مع اليزابيث ستون، تنقيباً ودفاعا عن كنوز سومر إلا إجابة عملية خصت الإبداع الذي انتجته التنوعات البيئية والجغرافية والنشاط الاقتصادي والتجمع السكاني، ما حقق حقيقة أزلية؛ كون السومريين ليسوا أقواماً وافدة نقلوا معارفهم وثقافتهم إلى أرض الجنوب، وإنما هم السكان الأصليون لهذه البقعة الأرضية والمائية في الجنوب العراقي. إن منطقة السهل الرسوبي من أغنى المناطق في الجنوب العراقي دالة على منتج لما كان يعمل عليه العقل العراقي السومري.

إن البيئة الجنوبية جغرافياً قد توفرت على مقومات التطور في الإنتاج المادي والمعرفي. فأرض الرافدين دجلة والفرات حاملة لمقومات الوجود الحضاري باقتدار. كما هي حضارة آشور وأكد. كان جهدهما في التنقيب هو جهد مضاف بعد انقطاع لما قدمه السير ليونارد ولي في عام 1934 واكتشاف المقبرة الملكية وكنوزها الثمينة. وثمة طرفة ذكية أطلقتها ستون حين شاهدت القوات العسكرية الأمريكية وهي تنسحب،علقت قائلة (كما ترون يذهب العسكر ويأتي العلماء). لقد أصر الحمداني وتفرغ من وظائفه، لصالح التنقيب وحماية المواقع. ووقف بقوة أمام اللوبي التركي السوري الذي حاول الاستحواذ على بعثات التنقيب الدولية، وتعطيل التوجهات التي تستهدف العمل بالتنقيب في الأراضي العراقية. إن كتاب دوشي بمثابة دفاع ومناشدة لكل من يحمل هماً وطنياً، وله رؤى مستقبلية.

لقد أكد الكاتب على أن (فعل المواجهة والحوار هو موضوع مختلف، يهزنا ويتحدى نظم معارفنا ويعمل على تأكيد الحقائق التي دأب عليها العلماء أمثال طه باقر/سامي سعيد الأحم مثلاً. وبذلك يدفعنا إلى التفكير، فهو قطع وشرخ في معارفنا). لذا نرى أن ما حصل لدى الكثير من المستشرقين والآثاريين في بداية عمليات التنقيب في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. هو فعل إدراك ومواجهة وحوار. لقد أسفرت كل التنقيبات عن نتائج يعرفها المتخصصون، لاسيما فترة عودة ستون للعمل في أُور، وعثورها مع الحمداني على قناع (خمبابا) الذي ورد في «ملحمة جلجامش» وجسدته رحلته إلى غابة الأرز مع صديقه (أنكيدو)، وما جرى في سفر الدخول إلى غابة الأرز ومواجهة الرمز الأُنثوي (خمبابا) من قبلهما.

إن قراءة الكتاب تعني الإمساك بمفاتيح الدخول إلى كتاب الحمداني المهم (ألواح رافدينية) الذي ينتظر منا عودة لقراءته والوقوف على أهم ما جاء في صفحاته من وجهات نظر باحث وآثاري ومنقب، ثم مترجم للنصوص القديمة، ترجمة تميزت بالدقة والجمالية الخالصة.

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي