مروة صلاح متولي *
ترتبط مسرحية «هاملت» بفن التمثيل ارتباطاً وثيقاً، قد لا يوجد بهذه القوة في أي من مسرحيات شكسبير الأخرى، فالدور كُتب في الأساس ليمثل لا ليقرأ كنص شعري مسرحي وحسب. كما أن شكسبير ضمّن مأساة الأمير الدنماركي، بعض الدروس القصيرة والمفيدة في فن التمثيل، ووظف هذا الفن واستخدمه كأحد مفاتيح حل العقدة الدرامية. وتعد شخصية هاملت من الشخصيات الأكثر تجسيداً في مختلف الأزمنة، ومن الأدوار الجاذبة لعظماء الممثلين في العالم، بل إن لعب دور هاملت يكون من أقوى دلائل عظمتهم واقتدارهم.
لكن كيف يشعر الممثل عندما يكون هاملت؟ وماذا عليه أن يفعل لكي ينجح في مهمته الأساسية، إحضار هاملت إلى الحياة لبعض الوقت، وأن يتجسد على المسرح كإنسان من لحم ودم وأعصاب، تراه الجماهير بأعينها وتسمعه بآذانها، وتحس آلام روحه المعذبة وقلبه المكلوم وذهنه المشتعل، وتتصل بمشاعره كافة اتصالاً مباشراً.
آلام هاملت
يمكن أن يظهر هاملت بأي شكل، وأن ينطق بأي لغة، أن يلقي أبيات شكسبير الشعرية بلغتها الأصلية الثقيلة، أو بلغة مبسطة، أو كشعر مترجم إلى لغة أخرى، أو كحوار نثري مستوحى من الشعر، وقد يصل الأمر إلى أن يكون هاملت مجرد طيف يرتسم في نص مسرحي، هو إعداد أو إعادة معالجة للنص الأصلي بشكل جديد مبتكر. ومن الممكن أن يلعب الممثل شخصية أخرى حديثة لها اسم مألوف وشكل معاصر، لكنها تحمل في داخلها آلام هاملت وعقده النفسية وحيرته وتردده، وحينئذ يكون على الممثل أن يجسد هاملت فعلاً بشكل أو بآخر في جميع الأحوال. ومهما تعددت صور ظهور هاملت ومحاولات تجسيده وتمثيله، فإن الممثل سيردد الأفكار نفسها، وسيسلم ذهنه لتلك الدوامة الفكرية المظلمة، التي أخذت تعصف بهاملت حتى أودت به وطال ضررها الآخرين. وسيخضع الممثل نفسه لتلك المشاعر التي تؤرق هاملت، وسيدخل في حالة التردد بين الشيء وضده، الحياة والموت، الحب والكراهية، القتل والعفو، المغفرة والانتقام، فهاملت في زمن المسرحية ومنذ بدايتها وحتى نهايتها، ليس سوى أمير حزين يمر بحالة وجدانية وشعورية خاصة وبالغة الحساسية، ولا يزال يعاني من آلام الفقد والآثار النفسية المترتبة عليه، يرتدي ثياب الحداد وإن ارتدى الجميع من حوله ثياب الاحتفال، فإنه فقد أباه الملك منذ أقل من شهرين، وخلال هذه المدة القصيرة تزوجت أمه من عمه الذي خلف شقيقه على العرش.
وكان هذا كافياً ليؤلم هاملت أشد الألم ويفاقم من أزمته، إلا أن الأمور تذهب إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، عندما يلتقي هاملت بشبح أبيه الملك، الذي تكرر ظهوره وتوافده على القلعة، ورآه بعض الحراس، وتم تداول الأمر حتى وصل الخبر إلى هاملت، وتمكن أخيراً من ملاقاته، وخلال هذا اللقاء يخبره شبح الأب بأن عمه قتله أثناء نومه بأن صب السم الزعاف في أذنه، ليستحوذ على عرشه، ويستأثر بزوجته الحبيبة التي كان يخاف على وجهها الجميل من أن يمسه الهواء. ويطلب منه الانتقام والثأر لمقتله والقضاء على العم، وأن يترك أمه لتتعذب بفعلتها وتصبح فريسة لتأنيب الضمير مدى العمر. لا شك في أن مشهد التقاء هاملت بشبح الملك الأب هو من أول المشاهد المهمة التي يؤديها الممثل خلال تجسيده لهذه الشخصية، فمنه تنطلق أحداث المسرحية، وبعده تتغير شخصية هاملت ويتبدل الأداء ويميل نحو المزيد من الحدة والتعقيد، والجنون أيضاً، سواء كان جنوناً حقيقياً أو جنوناً يدعيه الأمير الشاب، لكي ينفذ حيلته ويتم خطته الانتقامية، ولكي يتفادى أيضاً محاولات الفتك به والقضاء عليه، ولو إلى حين، حتى يلقى هزيمته الأبدية.
روح الممثل
في هذا المشهد يكون على الممثل أحياناً أن يتواصل مع الفراغ، أو مع شيء يراه هو فقط ويسمعه، ولا يراه الجمهور ولا يسمع له صوتاً، وفي أحيان أخرى يكون هناك من يلعب دور الشبح ويلقي عباراته، لكن في الحالتين لن يكون التواصل طبيعياً كأنه يجري مع أحد من البشر. كما أن الاستماع إلى ما يقوله الشبح لا يكون جاداً تماماً، فهناك حالة من الشك وعدم اليقين تسيطر على هاملت، ويجب أن يستدعيها الممثل، كما أن هناك الخوف من الشبح وإن كان في صورة أبيه الذي يحبه، وهناك احتمال أن يكون هو الشيطان وقد تجسد في هيئة الملك الأب لكي يعبث ويثير الفتن. وعلى الممثل أن ينهي هذا المشهد كمن تلقى كرة من الجحيم بين يديه لا يستطيع أن يفلتها، ويتيح هذا المشهد للممثل أن يبالغ بعض المبالغة في إظهار الخوف والاضطراب الجسدي، والتخبط من هول الصدمة، وصعوبة احتمال العبء الثقيل الذي ألقاه الشبح على كاهل هاملت، وعليه أن يتعامل معه حتى اللحظة الأخيرة.
وعندما تؤدى تلك المسرحية داخل مسرحية «هاملت» يجب أن يكون أداء الممثل أثناء مشاهدتها مختلفاً عن الجميع، فهو وحده يعلم حقيقة هذه المسرحية المختلقة، والهدف من ورائها، ووحده ينتظر نتيجتها، ويكون مستعداً لمشهد آخر أكثر خطورة سيأتي بعدها، وهو مشهد المواجهة مع الأم، بكل ما فيه من مشاعر معقدة ومركبة. |
من خلال هذا المشهد يغوص الممثل في أعماق شخصية هاملت بصورة أكبر، وينتقل تدريجياً من عالم الأفكار إلى عالم الفعل أو التخطيط الجيد للفعل، فيجب عدم إغفال جانب مهم من شخصية هاملت، وهو أنه كان قارئاً للكتب، وقضى سنوات طويلة من حياته في الدراسة، لذا يكون تعامله مع الواقع صعباً ومختلفاً وربما محكوم عليه بالفشل في النهاية، فهو يخضع لأفكاره النظرية وتأملاته الفكرية والفلسفية، ويقع ضحية لهذه القراءات والتأملات، مثله في ذلك مثل البعض من أبطال الروايات التي أتت لاحقة على رواية هاملت المسرحية التي ألفها شكسبير في مطلع القرن السابع عشر. ومثل هذه الشخصية تعاني عادة من ضعف ما وهشاشة واضحة، لا توجد كثيراً لدى من يتصلون بالواقع فقط ولا يقتربون من عالم الخيال والأفكار والمشاعر.
يمكن وصف مسرحية هاملت بأنها تمثيل في تمثيل في تمثيل، وسواء كان هاملت مجنوناً بالفعل أو يدعي الجنون، فهو على كل حال يمثل دور المجنون جيداً، ويمثل أيضاً دور الغافل الذي لا يدري ما يجري حوله، لكنه في حقيقة الأمر يعلم كل شيء، وفي ذلك يعتمد الممثل على الوجه الكاذب كثيراً.
الصوت والإلقاء
وهو محب لفن التمثيل، عليم بخصائصه الدقيقة، إلى درجة توحي بأنه الممثل الأكبر، أو أستاذ التمثيل الذي يوجه الممثلين ويدربهم على الأداء، ولأنه محب للتمثيل ويهوى مشاهدة الدراما والروايات المسرحية، لجأ القصر إلى مجموعة من الممثلين لكي يأتوا ويقدموا أحد عروضهم أمامه، على أمل أن يساعد ذلك في الترويح عنه وانتشال ذهنه مما هو غارق فيه وجذبه إلى أي شيء آخر غير آلامه، وإعادته قليلاً إلى حالته الطبيعية، والتخلص من علامات الجنون والغرابة التي أخذت تظهر عليه بشكل متسارع. وعلى لسان هاملت وضع شكسبير دروساً مهمة ومختصرة في فن التمثيل، وهو يرشد الممثلين إلى التركيز على بعض الأمور التي تقوي التجسيد، ويحثهم على التخلص من الأساليب الفجة الركيكة، ويطلب منهم أن يحسنوا تمثيل قصة تشبه قصة قتل عمه لأبيه وتزوجه من أمه، لكي يرى رد فعل الملك والملكة، ويتزود ببعض من اليقين والثقة في ما رواه له الشبح، ولكي يعقد العزم على الثأر والانتقام. وفي أثناء ذلك يوصيهما بالإلقاء الجيد، وبأن تنطلق الكلمات سهلة واضحة بلا مط أو معاناة في نطقها، وأن يكون الأداء سلساً حتى في اللحظات المعقدة العاصفة، وأن يبتعدوا عن الصراخ والزعيق الذي يؤذي الأسماع، فهناك دائماً ذلك الفرق الدقيق بين الانفعال والارتفاع بالصوت، وبين الصراخ والزعيق الذي يستطيع أن يفعله أي شخص لا علاقة له بفن التمثيل بمجرد وقوفه على خشبة المسرح. كما ينهاهم هاملت عن التطرف في القول والحركة، وألا تتضارب الكلمة وتتعارض مع التعبير الحركي عنها، فالجسد يجب أن يتبع الصوت والإلقاء والمشاعر المسيطرة على الممثل أو الشخصية في تلك اللحظة. ويشير هاملت أيضاً إلى ضرورة التوسط بين الحدة واللين في الأداء، واجتناب التصنع الذي قد يكون مضحكاً في غير موضع الضحك، ومن يؤدي دوراً مضحكاً في الأساس يطلب منه هاملت الالتزام بالكلمات المكتوبة، وعدم تجاوزها والإضافة إليها من أجل التماس الضحك الغبي من الجمهور.
فن الأداء
وعندما تؤدى تلك المسرحية داخل مسرحية «هاملت» يجب أن يكون أداء الممثل أثناء مشاهدتها مختلفاً عن الجميع، فهو وحده يعلم حقيقة هذه المسرحية المختلقة، والهدف من ورائها، ووحده ينتظر نتيجتها، ويكون مستعداً لمشهد آخر أكثر خطورة سيأتي بعدها، وهو مشهد المواجهة مع الأم، بكل ما فيه من مشاعر معقدة ومركبة، وعلى الممثل أن يشرح تلك المشاعر بشيء من الإفاضة، وأن ينقل أحاسيسه نقلاً قوياً إلى المشاهدين، ومن أهم ما يجب أن ينتبه إليه الممثل في علاقته بالأم هو ألا يتحول إلى أوديب، فهاملت ليس أوديب، وإن كان في داخله قليل من الأوديبية، والفروق ظاهرة لمن يمعن النظر قليلاً، وليست متداخلة أو مخادعة، فهاملت لن يقتل الأب ويتزوج الأم، كما فعل أوديب وهو يجهل أنه يقوم بذلك ويتحرك كدمية يلعب بها القدر، هاملت يريد أن يقتل عمه الذي قتل أباه، ولا يريد أن يتزوج أمه، بل يريد أن ينتقم منها انتقاما يقل عن القتل، والأم عند هاملت تتحول إلى عقدة تجاه المرأة عموماً، وتجاه الحب والزواج والإنجاب والحياة بشكل عام، وهي امرأة خائنة في نظره حولت جميع النساء إلى خائنات خاضعات للرغبة والهوى، لا يردعهن عن ذلك رادع، ينجبن الخطاة وأصحاب الآثام في عملية تتكرر بلا توقف، وهو يريد أن يوقف تلك المهزلة الوجودية، ومن أخطر الجمل القصيرة جداً، أو الأسئلة المختصرة التي يلقيها الممثل عندما يلعب دور هاملت ملتزماً بالنص الأصلي، هي تلك الأسئلة التي يوجهها إلى محبوبته أوفيليا، وتكون لها دلالات عميقة على عقدته الدفينة تجاه المرأة، عندما يقول لها: «أجميلة أنت؟ أعفيفة أنت؟». ومن رغبة هاملت في إيقاف المهزلة الوجودية التي يراها من وجهة نظره، تظهر الرغبة الأخطر أو أزمته الوجودية الأكبر، التي تتجلى من خلال تردده بين الانتحار والبقاء على قيد الحياة، وإدراكه أن الخوف وحده هو ما يدفع المرء أحياناً إلى الاستمرار في حياة يبغضها ويفضلها على مواجهة المجهول.
إحياء هاملت
عندما يشعر المشاهد بأن خواطره تندفع إلى أعماق هاملت وتتغلغل في أفكاره، يدرك أن الممثل وصل إلى درجة الإجادة والإحكام واكتمال الصنع، فقد أدى شكسبير مهمته مرة واحدة وانتهى الأمر إلى الأبد، ومن بعده صار الممثل هو المسؤول عن إعادة إحياء هاملت وتقديمه إلى المشاهد في كل مرة بدرجة عالية من التشويق والجاذبية، رغم علمه المسبق بالقصة المسرحية، وعمل الممثل هو صناعة الوهم، وهم يغرق فيه، لكن عليه ألا يغرق وحده وأن يجذب الجميع معه نحو أعماق ذلك الوهم، وعلى هاملت الممثل أن يكون بطلاً، يستحوذ على الاهتمام الكامل، وأن يكون أنانياً في ذلك، فلا يهبط بالشخصية إلى درجة عادية، أو يسمح بأن يساويها في الاهتمام أي من الشخصيات الأخرى، ويكون الخلق الفني فعالاً وأكثر قوة عندما يتم الحفاظ على الوحدة الشعورية لهاملت، والتناغم مع تدرجات الصراع في نفسه، فإن دور هاملت يقوم على ذلك الصراع الناشب في ذهنه وحواره الداخلي المستعر طوال الوقت، والشخصية هادئة في الظاهر وانفعالاتها الخارجية ضعيفة وقليلة إلا في بعض المشاهد، وهي شخصية مهددة بالموت ومستقبلها مبهم ومخيف، تعاني من فوضى ذهنية رهيبة. لا يعرف هاملت السرور ولا يعيش لحظات سعيدة على المسرح، تنعقد حكايته بحزن وتنحل بحزن أكبر، ولأن كل شيء يقوم على عالم هاملت الداخلي تقريباً، يستطيع أي ممثل في العالم أن يلعب دوره بلغته أو بلهجته المحلية بعيداُ عن الشعر والألفاظ الفخمة والتراكيب العظيمة، وما يهم حقاً هو أن يخرج الممثل من نفسه وأن يدخل في نفس هذا الأمير المعذب.
*كاتبة مصرية