
حسين جبار إبراهيم
ولد خير الدين التونسي سنة 1823 في قرية من قرى جبال القوقاز في أسرة شركسية. وكان الصغار في تلك المناطق يتعرضون للاختطاف بسبب جمالهم ويباعون في البلاد الإسلامية. مات أبوه ثم أمه وهو لا يزال طفلا صغيرا، فكفله عمه. وذات يوم بينما كان يلعب مع أقرانه، اختطفه فرسان مسلحون وتوجهوا به إلى الأستانة (إسطنبول) عاصمة الدولة العثمانية وعرضوه للبيع فاشتراه تحسين بك نقيب الأشراف وقاضي عسكر الأناضول، وعاد به إلى بيته ليجعله رفيقا لابنه الوحيد الذي كان يماثله في السن. وقد تلقى خير الدين معاملة إنسانية ورحيمة من تحسين بك وأسرته خففت من معاناته وغربته، وتلقى في قصره تعليمه الأساسي مع ذلك الطفل.
بعد سنوات اصيب ابن تحسين بك بمرض غامض وراح جسده يذوي سريعا دون أن ينفع معه علاج، حتى انتهى أخيرا بهلاكه، ففجعت الأسرة بفراق ابنها. وأراد تحسين بك أن يخفف من ذكرى ابنهم الحبيب وآلامها التي تتأجج في قلوبهم المكلومة، كلما ظهر أمامهم هذا الفتى، فقاده صباح أحد الأيام إلى سوق النخاسة وعرضه على وكيل من وكلاء الباي التونسي، الذي وجد فيه ما شجعه على شرائه، فدفع المال الذي طلبه به تحسين بك وأخذه ثم أبحر به إلى تونس.
عُرض خير الدين على أحمد باي (والي تونس من 1837 إلى 1855) فتفرس فيه قليلا، كان فتى رشيقا جميل الصورة قوي البنية. وحين كلمه وجد فيه مواصفات الفتى الذكي والشجاع الذي يحتاج اليه، فأعجب به وقربه وحرص على تربيته وتعليمه على أيدي عدد من أساتذة جامعة الزيتونة، ثم نسبه إلى كتيبة الفرسان فاقبل على التمرين واكتساب المعارف والفنون العسكرية والقتالية، فضلا عن تحقيق أقصى فائدة من مكتبة الباي العامرة بالكتب. ثم استغل وجوده بين المعلمين والضباط الفرنسيين في (المدرسة الحربية في باردو) التي صادف تدشينها مع وصوله إلى تونس، فتعلم اللغة الفرنسية والعربية وأتقن التركية، واكتسب من خلال علاقاته وحواراته مع الفرنسيين الانطباعات الأولى عن العالم الغربي المتحضر. سنة 1846، أدرج ضمن الهيئة التونسية المرافقة لأحمد باي في زيارته الرسمية إلى فرنسا، بدعوة من ملك فرنسا لويس فيليب، فكانت فرصة ثمينة تعرف فيها عن قرب على واحدة من الدول الأوروبية المتقدمة، واطلع على أحوال هذا البلد الذي ينتمي إليه أولئك الضباط والمعلمين الذين خالطهم وتأثر بهم. كما كان لقضية محمود بن عياد، الرجل الذي خان تونس وسرق أموالها وهرب إلى فرنسا، أثرها البالغ عليه بعد أن اختاره الباي ليقف خصما أمام ابن عياد للدفاع عن مصالح تونس في المحاكم الفرنسية. فتعرف هناك على نظام الدولة الفرنسية وإدارتها ودستورها وقوانينها وبرلمانها ومحاكمها وصحافتها. وحين رجع إلى تونس كان يحمل في رأسه أفكارا حية، وفي قلبه تصميم قوي على النهوض بالبلاد التونسية.
أصبح خير الدين وزيرا أكبر لتونس من سنة 1873 حتى استقالته سنة 1877. وحقق في تلك المدة القصيرة ورغم المصاعب والمعوقات الخطيرة إصلاحات كثيرة وعظيمة في المجالات العمرانية والاجتماعية والإدارية والقضائية وفي التربية والتعليم والثقافة والأوقاف والسياسة الخارجية؛ وكانت الأفكار الإصلاحية والتنويرية التي دونها في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» هي أثمن ما قدمه لجيله وللأجيال التي أعقبته في تونس خاصة والأمة العربية والإسلامية عامة.
تضافرت المشاكل والدسائس ضد خير الدين وحاربه الكثيرون، حتى من أبناء تونس التي عشقها وكرس حياته لخدمتها، حقدوا عليه وعملوا ضده بسبب سياسته التي ضيعت عليهم فرص الثراء، التي كانت متوفرة لهم قبل مجيئه للحكم؛ وأصبح مصطفى خزنة دار الوزير الأكبر السابق، مصدرا للحملات الإعلامية ضده في الخارج، واستطاع بفضل ثرواته الطائلة في بنوك الدول الأجنبية أن ينشر ضده الأفكار والدعايات المؤثرة، خصوصا في باريس وإيطاليا بعد أن اشترى ذمم كثير من الصحافيين فكتبوا له ما شاء ضد خصمه. وكانت تلك الأكاذيب مصدر خطر على خير الدين، داخل تونس وخارجها، خصوصا أنه لا يملك شيئا من القوة التي يملكها أعداؤه.
طلب خير الدين بعد أن استقال من منصبه الأذن بالسفر إلى Vichy التي تتوفر فيها عيون الماء الكبريتية الساخنة للعلاج من الروماتيزم، وعندما أعد الأوراق اللازمة للسفر وقدمها إلى محمد الصادق باي ليوقعها، تفاجأ برفضه ومنعه من السفر، فشعر الرجل بالخوف على حياته وحريته. وزاد من خوفه وقلقه أن الموظفين وحتى الأصدقاء منهم باتوا يتجنبون لقاءه خشية إغضاب الباي ووزيره الأكبر الجديد مصطفى بن إسماعيل. وبعد وساطات من بعض القناصل رفع المنع عنه وسمح له بالسفر إلى فيشي. ومع بدء موسم البرد أخذ يشعر بالضجر، ففكر في الذهاب إلى سويسرا، لكنه تخلى عن الفكرة خشية الانتكاسة الصحية بعد أن شعر بتحسن في فيشي. ثم غادر إلى باريس واستقر في شقة في شارع الشانزليزيه لمدة شهر، فعاوده الضجر والحنين إلى تونس، لكنه كان خائفا مما سيلاقيه فيها من إزعاجات، فأخذ يخطط للذهاب إلى مصر والاستقرار فيها مع أفراد أسرته. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1877 أخذ يستعد لمغادرة باريس والتوجه إلى تونس، لكن أحد الأصدقاء نقل اليه أن الباي قال لأحد القناصل إن بعض سياسات خير الدين السابقة كانت سيئة، وحذره ذلك الصديق من مغبة العودة إلى تونس إلا بإذن من الباي، خصوصا أن الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل من أشد الحاقدين عليه والمعارضين لعودته. فلجأ خير الدين لبعض أصدقائه من الأوروبيين والتونسيين للسعي لدى الباي ووزيره من أجل السماح له بالعودة إلى تونس وتركه يعيش فيها بسلام مع أسرته. وبعد مدة من الانتظار كتب إليه صديقه الوزير محمد خزنه دار بأن بإمكانه العودة، ولا يحتاج الأمر إلى إذن من الباي. لكن هذا الجواب لم ينزع الخوف من قلب خير الدين، وبقي قلقا متوجسا. وتلقى خطابا من القنصل الفرنسي روستان، أكد له فيه انه سيتدخل شخصيا في حالة مواجهته للمتاعب في تونس، لكن خير الدين رفض تدخله ورفض أن يكون تحت حماية فرنسية. وحين وصلت إلى أسماعه أخبار الحرب العثمانية – الروسية قرر العودة إلى تونس ليكون بين مواطنيه ومع أسرته في هذا الظرف، متغاضيا عن كل ما سيحدث له فيها. دخل خير الدين إلى بيته، وأقام فيه بسلام، لكن لم يزره أحد رغم مضي مدة طويلة نسبيا على وجوده في تونس، لم يجرؤ أي تونسي على زيارته سوى صديقين أوروبيين يترددان عليه. ونظر ذات يوم من الشباك، فرأى كِشكا أمام مدخل بيته يقيم فيه بعض الجنود، كان قد وضعه مصطفى بن إسماعيل لزيادة الخناق عليه. وفي أحد الأيام زاره شيخ في الثمانين من عمره اعتاد أن يستلم راتبا منه، فأمسك به أفراد من القصر ومنعوه من الوصول إلى هذا المكان. وهكذا ابتعد الناس عن خير الدين وتجنبوا لقاءه، تُرك معزولا وكأنه في محجر صحي، فزاد ذلك من عذابه وحنق على الباي وعلى أصدقائه محمد بيرم الخامس والجنرال حسين وغيرهما من الذين ابتعدوا عنه كي لا يجلبوا المتاعب لأنفسهم، على الرغم من عدم وجود تعليمات واضحة من الباي تمنعهم من زيارته. وطالت عزلة خير الدين واشتدت وطأتها عليه، وكدّرت آلام الروماتيزم حياته، فقدم طلبا آخر للسفر إلى فرنسا، ولبي طلبه هذه المرة بسرعة وسهولة، وغادر تونس في 11 حزيران/يونيو 1878 إلى Saint Nectaire، ولبث فيها مدة قصيرة شعر بعدها بالملل، ولازمه شعور مؤرق بأنه ليس سوى سجين يتنقل من زنزانة لأخرى. وفي 16 تموز/يوليو أصابته وعكة وهو في باريس، فعاد إلى تونس ليعيش فيها من جديد حياة العزلة والانكفاء.
في 26 آب/أغسطس 1878 استيقظ خير الدين على خبر غريب نقله إليه موظف من موظفي القصر، قال له إن هناك برقية من السلطان عبد الحميد الثاني يطلب فيها حضوره إليه. وفي إسطنبول قابل خير الدين السلطان عبد الحميد في قصره في الصباح الباكر من يوم 4 كانون الأول/ديسمبر 1878. وما أن مثل بين يديه حتى اخبره بانه قرأ كتابه (أقوم المسالك…) وأعجب بما ورد فيه من أفكار، ثم قال له إنه قام بعزل صفوت باشا من منصب الصدارة العظمى وقرر تعيينه صدرا أعظم بدلا عنه. ورفض السلطان اعتذار خير الدين عن قبول المنصب مؤكدا له أنّ مرسوم تعيينه اُعلن ولن يتراجع عنه. فانصاع خير الدين للأمر وتحمل مسؤولية إدارة الدولة العثمانية في ذلك الظرف الصعب الذي كانت تمر به.
أما في تونس فكان لخبر تقلد خير الدين منصب الصدارة العظمى وقع شديد ومفاجئ أذهل تونس كلها؛ وكان محمد الصادق باي ووزيره مصطفى بن إسماعيل أكثر من فوجئ به وخشي من عواقبه. لكن خير الدين لم يفكر حتى مجرد تفكير بالانتقام من أحد، بل على العكس من ذلك، فقد طرق بابه في إسطنبول الكثير من التونسيين ولم يرد أحدا منهم، ولم يذكّره بماضيه، حتى الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل الذي طرده الباي وخذله الفرنسيون، اتجه وهو مفلس تماما إلى إسطنبول، فتحركت ضده الجالية التونسية وأهانته بسبب أفعاله المشينة وخيانته لوطنه وشعبه، فوجد نفسه بائسا معدما وحيدا، وليس أمامه من سبيل سوى أن يستجير بخير الدين التونسي، ففتح له هذا بابه، وخصص له غرفة في قصره ليقيم فيها.
كاتب عراقي