قلوبهم معك وسيوفهم عليك

2022-04-24

رضا نازه

جلستُ يوما خلف زجاج مقهى أستروح بعض الوقت وأنظر للعابرين الجائزين في آن واحد. العبورُ لليابسة والجواز للماء كما يقول المعجم، وكان المارة حينها قد جمعوا المعنيين. إذ مع أنهم أهل يابسة إلا أن زخات المطر القوية جعلتهم في منزلة بين المنزلتين، يمشون بين إسفلت وبرك وسيول ومربعات زليج، تقذف الماء من تحتها وتنتقم من الأقدام التي زحزحتها عن مستقرها، وإنما زحزحها الغش الأصلي لو أن الزليج يعقل..

بين عبور وجواز ومجاز يبقى لكل عابر أو جائز أو مُراقب شأنه مع المطر. هناك من يتقيه ويتأمل هطوله محتميا بشرفة بيت بارزة، أو ظُلَّة محل بِقالة. هناك الراكض ليصل مأمنه لا يتصور المطر إلا في علاقة مع بلل الثياب، لا فعلا سماويا ورحمة حديثة العهد بربها. هناك الماشي في ظل مطريته لا يبالي، حيث وقع الماء ما دام سقف ذاته وقبته البشرية على الجفاف الأصلي. وهناك الجالس في المقهى يرقب من مكان بعيد آمن، يعطي الطريق حقه أو لا يُعطيه. قيل وما حق الطريق؟ قال غَضُّ الْبَصَر، وكَفُّ الأَذَى، ورَدُّ السَّلامِ..

ما لبث أن كف المطر وبدا قوس ألوان يقال إنه إشارة أمان إلهي ظهرت لتبشر بنهاية الطوفان، وتنذر بأن اليومَ إغراقٌ وغدا إحراق، في غدٍ لا غدَ له. ثم كأنما انفتحت نافذة في الغمام وأطلت أشعة الشمس. فتحتُ عددا قديما من مجلة «نيوزويك» وجدته في طريقي عند بائع كتب قديمة جوال في الأزقة، لم أكن قد قرأت منها سطرا واحدا منذ جلست، ذلك أني لم أر شخصا من رواد المقهى يقرأ فلم أقرأ، ورأيت الكل يكتفون بالحملقة فقط فلبثت أحملق أنا كذلك. ثم حضر شابان حتى جلسا في الخارج إلى مائدة قريبة من زجاج النافذة. يكفي أن أفتحها قليلا كي أسمع الحديث الشيق الذي أتيا يتجاذبان أطرافه بقوة من بعيد. لا داعي، فقد كان ينمو إلى سمعي نقاشُهما، رغم الزجاج. كان أحدهما يجادل صاحبه بإكبار عن قوة الماريكانوس، كما وصفوا في أول رسالة اعتراف بالاستقلال تصل حكومة الولايات المتحدة من سلطان المغرب يومها «إلى السيد جورج واشنطن، عظيم الماريكانوس..» هكذا. المهم هو أن الماريكانوس في نظر الشاب ألِف، قوة لا تقهر وهي دركي العالم لقرن آخر ورائدة العالم الحر لألفية أخرى وهي بيل غيتس الدول، كما أن بيل غيتس هو بيل غيتس البشر والعبقري الذي لم تمنعه عبقريته من فعل الخير وحمل لواء التلقيح وهو لم يتلقح، وليس في الإمكان أبدع من الماريكان. كل ذلك، بينما الشاب باء، في المقابل يجادل عن الصين والروس، أصحاب الرس ربما، والرس بئر يقال إنها كانت في أذربيجان..

أثار انتباهي شيئان.. أولهما رغم الجو البارد المطير فقد كان الشابان يرتديان صدريتين صيفيتين خفيفتين في تناقض صارخ وتحدٍّ كبير للجو الشتوي المتلبد بالغيوم. وهذه بدعة لباسية سرت كالنار في هشيم شبابِ الأزمنة الحاضرة، ولو أنني ارتديت مثل تلك الصدرية حينها لكنت في المساء والأيام التي تليه عَبْدَ السعال والزكام والفحوص والشكوك والعمل عن بعد. هذا لا ينفي أنهما كانا يسعلان من حين لآخر، لكن سعالهما من صميم المذهب الشبابي الجديد. والثاني والأعجب أنه على صدر الشاب المنافح عن الماريكانوس كانت تطل صورة تشي جيفارا الشهيرة بالأبيض والأسود، بشعرٍ كلبدة الأسد الهصور وعينين غاضبتين شاخصتين إلى أفق بعيد جديد من آفاق الثورة الدائمة المستدامة السرمدية الأبدية. الشاب فعلا جمع أقطار التناقض. لباسه الخفيف والقرْ، وصورة لباسه والهذْرْ.. فعلمت عن حق لماذا نقول تحت سمائنا «هذر معايا نهذر معاك، أجي نهذرو شوية» والأجدر أن لا نتهاذر، إذا كنا نريد أن يبدأ الكلام..

يؤثر عن فرديناند دو سوسير قوله: «لا يمكن التفكير دون لغة» ولا حياة للغة دون كلام، فهل يمكن التفكير بالهذر فضلا عن الحياة به؟ لكن.. ربما يكون سبب شح ملابس الشاب هو الحاجة والفقر والحلم بالجواز إلى بلاد الماريكانوس ولو بعبور مؤقت في بلاد تشي جيفارا. حينها سينزع عنه الصدرية، يرمي بها عرض البحر. معذرة إرنستو. قلوبنا معك وكياننا مع الماريكانوس، ولا سيوف هناك ولا فروسية..

فتحت عدد «نيوزويك» القديم عرَضا على صفحة الكاريكاتير. فإذا صورة رجل على حافة نافذة في أعلى ناطحة سحاب في بلاد الماريكانوس، يريد أن يرمي بنفسه منها، وشخص يطل من نافذة أخرى يحاول تهدئته، ويقول له: «يا سيدي الوضع المالي ليس سيئا، انتظر على الأقل حتى تستشير ألان كرينسبان، مدير الخزينة الفدرالية الماريكانوسية!» بينما الرجل على الحافة يقول له: «هل يجدي يا غبي.. أنا ألانْ كْرينْسْبَان!»

قاص مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي