ماذا فعلت خيرية قاسمية بمذكرات ويوميات «الرعيل العربي الأول»؟

2022-04-21

ثائر دوري

نالت الراحلة خيرية قاسمية (1937- 2014) أستاذة التاريخ في جامعة دمشق  شهادة الدكتوراه في جامعة القاهرة عن تاريخ العرب الحديث والمعاصر عام 1972، وقبلها قدمت رسالة الماجستير عن الحكومة العربية الأولى في دمشق بين عامي 1918 – 1920. ومنذ ذلك الحين وحتى رحيلها عام 2014 أنجزت عشرات الأعمال التاريخية عن القرن العشرين ورجالاته في بلاد الشام تحديداً، واشتهرت بشكل خاص بنشر أو تحقيق أو تحرير أو تدقيق.. (أحار في الوصف الدقيق لعملها) مذكرات ويوميات وأوراق رجالات ما أطلقت عليه في أحد الكتب اسم (الرعيل العربي الأول) ويعني الرجال الذين عملوا في الحقل العام، في السياسة حصراً، في نهايات العهد العثماني، وفي العهد الفيصلي، وفي بدايات الدولة القطرية. فملأوا الفضاء السياسي للنصف الأول من القرن العشرين، ومن الأعمال التي مرت من بين يديها نعدد: مذكرات محسن البرازي، مذكرات فوزي القاوقجي، أوراق عادل ونبيه العظمة، مذكرات عوني عبد الهادي، مذكرات سامي السراج، إلخ.

تحقيق أم تحرير أم إعداد أم اختصار؟

اختلفت طريقة خيرية قاسمية في تناولها مذكرات وأوراق الشخصيات، التي عملت عليها، فعلى سبيل المثال، اكتفت – أثناء عملها على مذكرات فوزي القاوقجي – بكتابة مقدمة صغيرة من ست صفحات فقط لكتاب مكون من 669 صفحة (صدر على مرحلتين وفي جزأين أولهما غطى المرحلة التاريخية الممتدة بين عامي 1912 – 1932 وصدر عام 1975. والجزء الثاني غطى المرحلة التاريخية الممتدة بين عامي 1936 – 1948. قبل أن يتم دمجهما معاً ويصدران في دمشق عام 1995). في مقدمة طبعة دمشق من هذه المذكرات تقول إنها «أجرت تعديلات، لم تمس جوهر المذكرات، لكنها تتناول التدقيق في أسماء الأشخاص والمواقع وتصحيح الأخطاء المطبعية، وإضافة أجزاء متفرقة من أفكار وخواطر سجلها القاوقجي في فترات متباعدة». هنا كان تدخل خيرية قاسمية في حدوده الدنيا، فوصلت أوراق القاوقجي إلى القارئ كما كتبها دون إعادة إنتاج، ولو أني غير واثق تماماً أنها كاملة لأن ما كتبه سعيد تقي الدين عن سيرة القاوقجي توحي بجو آخر في المذكرات. ولهذا حديث لاحق… لكن النهج اختلف في الأعمال اللاحقة، فمع ترسخ مكانتها البحثية والأكاديمية، بدأ حضورها يطغى على حضور صاحب المذكرات والأوراق.

ففي كتابها عن أوراق ومذكرات نبيه وعادل العظمة المعنون «الرعيل العربي الأول: حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة» الصادر عن دار الريس عام 1991 نجدها تقلب المعادلة كاملة فمن حد أدنى من التدخل في مذكرات القاوقجي إلى سيطرة كاملة على المؤلف، بحيث تصير الأوراق والمذكرات شيئاً ثانوياً بالنسبة لمن يفترض أنها مجرد معدة لها. ليس عن عبث أن يتصدر اسمها غلاف الكتاب من الأعلى ويصبح الكتاب «الرعيل العربي الأول: حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة» لخيرية قاسمية، بينما كان اسمها صغيراً على غلاف مذكرات القاوقجي. وتبرر ما أقدمت عليه «كان لا بد من اتباع مبدأ الاختيار في المعلومات». وتتابع «ونظراً لضخامة حجم هذه الأوراق التي تتجاوز ألف وثيقة وهو ما يزيد عن ثلاثة آلاف صفحة» فقد اتبعت مبدأ اختيار نماذج من هذه الأوراق (ما يقارب المئتي صفحة) أي اختصرت ثلاثة آلاف صفحة إلى مئتي صفحة، أي إلى أقل من 8%، لكنها تعرب عن أملها في نشر هذه المجموعة كاملة لأنها «تعد من أغنى المجموعات الوثائقية في الوطن العربي، إن لم تكن أغناها» وهي أمنية لم تعد لذكرها مع أوراق عوني عبد الهادي ولا مع مذكرات السراج.

ليس عن عبث أن يتصدر اسمها غلاف الكتاب من الأعلى ويصبح الكتاب «الرعيل العربي الأول: حياة وأوراق نبيه وعادل العظمة» لخيرية قاسمية، بينما كان اسمها صغيراً على غلاف مذكرات القاوقجي.

ولا تشرح سبب عدم نشرها كاملة في ذلك الوقت بدلاً من نشر مقتطفات منها، وإن كنت أخمن أنها متطلبات السوق فلا يمكن أن تقدم دار نشر خاصة في ظروف تراجع سوق الكتاب في تسعينيات القرن العشرين وتراجع عادة القراءة عند شرائح واسعة من المتعلمين، بعد انتشار الثقافة البصرية، إضافة إلى تراجع القدرة الشرائية. لا يمكن أن تقوم بنشر ثلاثة آلاف صفحة. وأعتقد لو توفر من يمول بسخاء لنشرت الأوراق كاملة، فقد أقدم مركز دراسات الوحدة العربية على نشر الأعمال الكاملة للسياسي الفلسطيني الراحل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري (1908- 1980) كما هي (4500 صفحة) وكانت المحررة أيضاً خيرية قاسمية، لكن اسمها اختفى من غلاف المجلدات ووضع بزاوية صغيرة في الصفحة الداخلية.

في كتاب «الرعيل العربي الأول» تبدأ مرحلة جديدة من تعامل قاسمية مع مادة عملها إذ يتراجع صوت المؤلف للخلف فتكتب هي النص وتضع ما دوّنه صاحب العمل في مذكراته بين أقواس، وكي يتعرف قارئ هذا المقال على طريقة عملها سأضع مقطعاً صغيراً من الكتاب (في لقاء بين الملك فيصل وعادل العظمة جرى في عمان تموز /يوليو1926. وكان الملك يشكو من الاستقلاليين السوريين لاتجاههم نحو الملك ابن السعود، كان رد عادل كما تروي مذكراته «أن هذا الاتجاه لا بد منه لأجل الاستفادة من المركز الذي حصل عليه ابن سعود نتيجة استيلائه على الحجاز»). استمرت على هذا النهج، الذي ارتكز على أمرين: أولهما الاختصار، الذي يقوم على انتقاء عينات محدودة من المذكرات والأوراق واليوميات، وهو أمر لا يبرره أي منهج علمي، وتم تحت شروط الناشر ولسهولة التسويق فقط. والأمر الثاني أن هذا الاختصار المخل تطلب حضوراً أكبر لقاسمية بحيث أصبح الكتاب خاص بخيرية قاسمية، وليس لعوني عبد الهادي أو عادل ونبيه العظمة يمكنك أن تقول عنه إنه كتاب عن فلان بقلم خيرية قاسمية. لقد غاب صوت المؤلف الأصلي وحضر صوت قاسمية. وصولاً إلى مذكرات وأوراق سامي السراج (1892- 1960) التي صدرت في دمشق عن دار الأهالي عام 2003. في الطريقة نفسها: الاختصار، وحضور صوت خيرية على حساب صاحب المذكرات. وأتيح لي عبر علاقة شخصية مع كمال خلف الطويل (سامي السراج أخوجده من جهة الوالدة) التعرف على طريقة عمل قاسمية على مذكرات السراج. قُدمت لها المذكرات المكونة من أربعة مجلدات ضخمة تضم حوالي ألف ومئتي صفحة منقحة ومطبوعة على الآلة الكاتبة، وبعد أن اطلعت عليها قالت إن حجمها لا يجعلها صالحة للنشر، وإن من الأفضل والأرشق أن تنشر مقتطفات منها تعبر عن الشخصية ومواقفها، وأيد الرأي صاحب دار نشر الأهالي حسين العودات فكانت النتيجة أن ظهر إلى الوجود مولود من 330 صفحة بما فيها صور ونماذج مكتوبة بخط يد السراج، أما الكتاب فمكتوب من قبل قاسمية مع استشهادات من السراج.

ماذا نتج عن كل ذلك؟

حصلنا على كتب يصلح القول عنها إنها معقمة. كتب قُتلت الحياة التي تضج بها اليوميات أو المذكرات فغابت التفاصيل التي يعتمد عليها القارئ في إعادة بناء عالم مضى وانقضى. ويمكن للمختصين أن يلاحظوا الفرق الشاسع بين مذكرات عزة دروزة، التي صدرت كاملة دون تصحيف أو تحرير أو تعقيب أو تحقيق فنراها تضح بالحياة وتقدم صورة حية للمدن العربية التي عاش فيها المؤلف من نابلس إلى القدس وبيروت ودمشق، صورة تساعد في فهم جو هذه المدن في النصف الأول من القرن العشرين. وبين المذكرات واليوميات التي قدمتها قاسمية وغابت عنها كل تفاصيل الحياة واقتصرت على عرض الجانب السياسي، وبرؤيتها. وأيضاً يمكن المقارنة مع يوميات رستم حيدر التي حققها وكتب مقدمتها نجدة فتحي صفوة وصدرت طبعتها الأولى عن الدار العربية للموسوعات عام 1988 فقدمت صورة نادرة عن أجواء مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، وعن حياة الأمير فيصل في باريس ولقاءاته، وما جرى هناك دون أن يتدخل المحقق إلا بوضع هوامش حول شخصية أو فكرة، على الرغم من الحجم الكبير لليوميات تقريبا 850 صفحة. أما قاسمية فقد استولت على المتن وتركت الهامش لصاحب المذكرات.

سلطة المحقق أو المعد

لاحظت دانا السجدي في كتابها «حلاق دمشق» أن محقق الكتاب يمتلك سلطة. ففي تعليقها على تحقيق كتاب «البديري الحلاق» من قبل محمد سعيد القاسمي المتوفى عام 1900. لاحظت أن سلطة التحقيق «التي دعمها حقيقة أن المؤلف الأصلي كان قد توفي منذ زمن بعيد..» قد مكنته «من تخليص النص من الحلاق، المؤلف كبطل، ومن توسلاته الملحمية وطرائقه الدرامية، إلخ» فاستخدم سلطة المحقق أو المعد لصالح إنتاج نص جديد ينسجم مع وضع القاسمي الاجتماعي والسياسي ولغته الرسمية المناقضة بشكل تام لوضع رجل من عامة الناس يكتب بلغة عامية تنحدر إلى السوقية أحياناً، ومعني بغلاء المواد الغذائية أكثر من عنايته بإنجازات آل العظم والقصور التي يشيدونها. وبالمثل نقول إن الأكاديمية قاسمية التي قضت حياتها في كتابة وقراءة وتدريس الأحداث التاريخية الكبيرة، لا يعني لها شيئاً، على سبيل المثال، تفاصيل طفولة السراج في مدينة حماة، ولا حياة دمشق اليومية في مطلع القرن العشرين، فهذا بعيد عن اختصاصها تماماً. وربما لا تجد له أي قيمة. في حين أن هذه التفاصيل الصغيرة تصاعدت أهميتها كثيراً في العقود الماضية، وبات هناك أناس ينقبون خلفها بهدف إعادة بناء شكل المدن وحياة الناس في كل تفاصيلها لحفظها من الضياع ولتعميق فهم الأحداث التاريخية السابقة واللاحقة. أنا واحد ممن ينشدون إلى ما خلف الصورة إلى ما لا يقوله الكاتب أثناء سرده يومياته أو مذكراته بقدر اهتمامي بما يقوله. وهذه أمور لا تتحقق قط في ما أنجزته خيرية. لهذا أدعو المختصين وورثة الوثائق الأصلية لإعادة نشرها كاملة وقد صارت إمكانية ذلك متاحة بتكلفة بسيطة حالياً في ظل شيوع النشر الإلكتروني….

أخيراً قرأت بالتزامن مع مقدمة خيرية لمذكرات فوزي القاوقجي، ما كتبه الصحافي والكاتب سعيد تقي الدين. كانت مقدمة قاسمية ككل عمل أكاديمي باردة جافة ظهر فيها القاوقجي شاحباً مصفراً بلا حياة كتمثال الشمع، فهي ركزت على الأحداث التاريخية التي عاشها أو صنعها القاوقجي. في حين أن مقدمة سعيد تقي الدين قدمت القاوقجي بطلا من لحم ودم يعيش الحياة اليومية، ويمارس المناورة وحتى الخداع أحياناً، ويتمتع بملذات الحياة وهو يعيش مع زوجته الألمانية وأطفاله، ويتعرض لشتى الاتهامات ولسوء الفهم. أحببت الثانية وقرأتها بنهم، بينما قرأت مقدمة قاسمية بحيادية. والمشاعر نفسها راودتني وأنا أقرأ بنهم مذكرات عزة دروزة الصاخبة بالحياة الأسرية والاجتماعية والسياسية. بينما كنت أجبر نفسي على قراءة ما كتبته قاسمية عن عوني عبد الهادي وسامي السراج وعادل ونبيه العظمة. هل حكم على كل عمل أكاديمي أن يكون بارداً كالطعام المحفوظ في الثلاجات!

كاتب سوري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي