
حسن داوود
يتداخل التاريخان 1985 و2019، متعدّيين الفاصل الزمني الذي يباعد بينهما. ذاك لأن ما حصل في الماضي ظل جاثما في السنوات التي فصلت بينهما. كانت «رؤيا» في أول عمر المراهقة آنذاك، في تلك السنة من الثمانينيات، حين قامت بمغامرتها الأولى. جازفت بالذهاب إلى صيدا مع رجل لا تعرفه، لكن من أجل أن تتعرّف إلى البيت الذي أقامت فيه أمها، طفلة. هي مغامرة بريئة يستعاد ذكرها مرارا في مجرى الرواية، فتكون بذلك فعلا نادرا في سلوك رؤيا، من مراهقتها حتى بلوغها منتصف الأربعين. شبّان عديدون تعاقب وجودهم في مجرى تلك السنوات، لكن قلما ترك أحدهم ما يُروى. وحده مالك ابن الناطور، ترك بصماته على صفحات الرواية، لكن دون أن يخطو نحو إقامة علاقة معها، هي المقيمة في الطابق السادس من تلك البناية. لم يفصح مالك عن تعلّقه بها إلا بعد موته، مودعا إرثه الغرامي في عهدة صديقه نديم، الذي كان رسوله لما بعد الموت. آخرون، بينهم رامي ابن أحد رؤساء البلد وسارقيه، كان مجرّد زائر على حياتها، وهكذا كان ماريوس، الذي تعرّفت إليه في برن، واحدا ممن عرفتهم، وإن لم يؤت على ذكره في الرواية إلا مرّتين، إحداهما في مطلع الرواية والأخرى في ختامها.
الحاضرون في الرواية المتّخِذة نبرة الاعتراف، إذ هي جارية كلها بلسان المتكلّم، أو المتكلمة بالأحرى، هم أقرب إلى الغياب منهم إلى الحضور. هم موجودون في التذكّر أو التأمّل، أو في مجيء أطيافهم في المنامات، حتى الصديقات من النساء، عليا وزينب، تبدوان مثل حارستين متأهّبتين لتعينا رؤيا في ملمّاتها. الخارج قليل الوجود، فيما الغائب هو الحاضر دائما. إن شئنا أن نتساءل عن رواية «يوم الشمس» إلى أين يذهب بنا سردها، نجد ذلك في سعيها لاقتفاء أثر أمها الراحلة، أو فلنقل سرّ أمها الذي، مع فصول الرواية، نتابع انكشافه بالتدريج. أما إن شئنا أن نجد شخصية كاملة الحضور في الرواية فلن نقف إلا عند العمّة، التي تولّت تربية رؤيا في غياب أمها. العمّة هي شخصية حقيقية، عمّة حقيقية، تمنع وتضع حدودا وتعيّن مَن مِن رفيقات رؤيا أو من جيرانها يحقّ له زيارتها في البيت.
أما الأب فغائب، سواء في تسليمه أمر ابنته إلى شقيقته، أو في غياب وعيه وقعوده صامتا غير قادر على النطق، ابتداء من النصف الثاني من الرواية، أي في الفصول التي تتناول عام 2019 حتى لحظة وفاته، حين هوى عن كرسيّه، حتى غسله ثم دفنه، لم تسرع وتيرة الرواية وتنتقل إلى حدثية أكثر ديناميكية. هكذا تسعى الكاتبة إلى إبقاء نبرة الاعتراف، اعتراف بطلتها، محافظة على وتيرتها الساكنة. وهي تمكنت من الحفاظ على ذلك حتى حين راحت تصف الحال التي يتخبّط فيها البلد الذي تتآكله الحروب الحقيقية والحروب المنتظرة ويتناهبه سياسيوه (وهي تذكر، بالتعيين، ما عُرف بحرب «الأعلام» ومواجهات 6 شباط/فبراير 1984، الباقي عنفهما راسخا في ذاكرة اللبنانيين).
أما ما تسعى الكاتبة إلى متابَعته بتيقّظ وانتباه فهو أكثر ما يبقي الرواية على سكونها وهدوء نبرتها. وهذان، السكون وهدوء النبرة، ما كان لهما أن يجعلا الرواية أسرع حركة، رغم ارتباطهما بالأسرار التي أحاطت بحياة الأم وموتها. كانت مي، وهذا اسمها، مبدعة في رسمها للوحاتها وكان على ابنتها أن تستحضرها، بل وترثها، انطلاقا من اللوحات التي كانت تركتها أمها قبل رحيلها. في الصفحات الأخيرة من الرواية تعلن الابنة، عبر رسم الحروف وتلوينها، أنها اندمجت بأمها وحلّت فيها حتى صارتا روحا واحدة. ولم يكن سبيل الوصول إلى ذلك هيّنا إذ اقتضى قدرا من التوقّف عند تفاصيل الحروف المفردة، المنزوعة من كلماتها أو المستقلّة عنها، بحثا في فنية الحروف وفلسفتها الطالعة غالبا من صوفيتها، حين الاستشهاد بالحلاج والنفري وابن عربي، وبنحويين مثل ابن جنّي وخطّاطين من بينهم ابن مقلة.
تتقاطع أحداث الرواية، الخافتة النبرة، مع التفكير بالحروف التي ترى الراوية أن فيها، مفكّكة، معاني «تتجاوز في نظري معاني الكلمات الكاملة والعلاقة بين الكلمة ومدلولها» وأن «لكل حرف كاريزما تجعله فريدا وأن الحروف المفكّكة حرة تعبّر عن نفسها».
تتابع الرواية مسرى الحروف المرسومة المتوزعة بحرية على قماشة الرسم لتنتقل، في مراحل تالية منها، إلى البحث في «قدرة اللون على تجسيد الصوت والعاطفة المرتبطة به» على ما قال فاسيلي كاندينسكي.
في توجه الأعمال الروائية إلى مقاربة الفنون الأخرى والصناعات وتواريخ الأفكار يبدو ما ذهبت إليه الروائية هالة كوثراني الأكثر تطلّبا للغوص في المعرفة لبلوغ المعنى. ذلك ما يحتاجه إنطاق الحرف الصامت بعد أن يتحرّر من الكلمات التي تحبسه.
«يوم الشمس» رواية هالة كوثراني صدرت عن دار نوفل في 236 صفحة، لسنة 2022.
كاتب لبناني