
محمد عبد الرحيم
رحل منذ أيام الروائي وكاتب السيناريو المصري مجيد طوبيا (1938 ـ 2022) وإن كان الرجل قد اعتزل الحياة الثقافية منذ فترة طويلة، اللهم إلا الظهور في حفل تكريم أو بمناسبة إعادة طباعة أعماله.
اختار طوبيا العزلة مُبتعداً عن المناخ الفاسد حسب قوله في أحد حواراته الثقافية، وأن ثرثرة الوجود أو المثقفين في المقاهي والجلسات تنتفي وطبعه وحالة الوحدة التي استأنسها منذ وقت طويل.
تنوعت كتابات مجيد طوبيا ما بين المجموعات القصصية والرواية والسيناريو، والدراسات والمقالات، وقد قدّم إلى السينما والرواية المصرية والعربية عملين من أهم منجزاتهما، وهما فيلم «أبناء الصمت» ورواية «تغريبة بني حتحوت». وما بين سيناريو الفيلم المأخوذ عن رواية بهذا الاسم، وروايته الأشهر «التغريبة» تدور أعمال الرجل في الفلك نفسه، ما بين حرب الاستنزاف والاستنزاف الروحي والتاريخي لهذا الشعب، الذي من سوء حظه وجِدَ ليحاول طيلة حياته أن يصبح حراً. وإن كان طوبيا في «أبناء الصمت» يحاول تجاوز أزمة هزيمة 1967، إلا أنه في تغريبته يحاول اكتشاف الأسباب باللجوء إلى التاريخ، وأن الأمر لم يكن مُصادفة، فهناك داء لا بد من استئصاله أولاً، ولا سبيل إلى ذلك إلا المزيد من تضحيات قادرة على إثارة الوعي بما حدث، ربما لتجنب تكراره ـ هكذا كان يحلم ـ أملاً في مستقبل مغاير، وهكذا جيل حالي يحلم أيضاً.
كابوس طويل
«لهذا السبب أُفرج عنك، فهذه الكلاب لا تتعرف على المواطن المذنب وإنما على المواطن البريء». (رواية الهؤلاء) كتب مجيد طوبيا رواية «الهؤلاء» عام 1973، محاولاً من خلالها استعراض عالم كابوسي، مازجاً بين «المحاكمة» لكافكا و»1984» لأورويل، حيث نظام حاكم لا يرحم، يتجاوز مصر إلى أنظمة الحكم العربية التي تتسلط على مواطنيها، وتراقبهم نافذة إلى ما تحت جلودهم. وإن كان الكاتب شيّد مكاناً خيالياً، إلا أنه يوجد على أرض الواقع، ورغم تاريخ كتابة الرواية إلا أنها لم تزل ـ للأسف ـ صالحة للقراءة وكأنها مكتوبة تعبيراً عن اللحظة الراهنة. فتهمة البطل الوحيدة أنه قرأ كتاباً يقول إن الارض تدور في اتجاه مخالف لدوران عقربي الساعة. فلماذا تصبح هذه الحركة ـ الأرض ومَن وما عليها ـ ضد الزمن؟ هناك خطأ دفين. وبمجرد هذا التفكير يظهر للبطل أحد الأشخاص المنتمين إلى مجموعة الـ(هؤلاء). مجموعة لا تنتهي من الشخوص، وهم بدورهم هؤلاء لآخرين، خاصة أن دليل الإدانة يتمثل في ساعة اليد التي يعتصمها البطل، والتي يرتعب منها الآخرون ظناً أنها جهاز تنصت. وبعد رحلة شاقة في أقسام بوليس الدولة بكاملها، كان لا بد من إثبات الرجل براءته.. من أي تهمة؟ لا يعرف. وتنتهي أحداث الرواية دون أن يعرف مصيره.
هذا ما كان سائداً في ستينيات القرن الفائت، وقد نسج طوبيا روائياً هذه الحالة في شكل من الفانتازيا، التي عادت سيرتها الآن إلى الحياة مرّة أخرى، لذا فهي رواية تعيد إنتاج أحداثها بشكل أو بآخر.
بنو حتحوت
ونأتي للعمل الأشهر للرجل، أو ملحمته التي حاول من خلالها البحث عن أسباب ما حدث وما يحدث. فالرجل ينتمي حسب التقسيمات ـ وهي غير دقيقة ـ إلى جيل الستينيات، وجاءت هزيمة يونيو/حزيران لتضع هؤلاء أمام مواجهات لم يتخيلها أكثرهم شطحاً. كانت فكرة الرفض لتقليد النمط السائد في الكتابة وقتها أحد روافد هذه الثورة في الكتابة الجديدة وتقنياتها، إضافة إلى محاولة التعلّق بأدنى صورة من صور الأمل والبحث عن الجذور وتمجيدها، وكأنها العاصم الوحيد من الكارثة، فكان اللجوء إلى التراث في أشكاله وتنويعاته كافة، كصوت عميق يُثبت لهؤلاء أنهم موجودون بالفعل، لهم أجداد وحكايات صالحة لإعادة روايتها، دون نسيان ما ترمي إليه وتدل.
اللافت أيضاً هنا أن الكتابة من خلال حدث تاريخي أو تراثي لم تكن مثل بروباغندا نظام الستينيات ـ قبل يونيو ـ فانتقل الأمر من التباهي الساذج والإعلام الموالي في أشكاله كافة إلى الانتقاد الحاد، حتى لو كان بشكل رمزي، إلا أنه لم يكن موارباً أو متوارياً، بل المقارنة والمطابقة بين الحدث التاريخي وما يحدث بالفعل تكاد تنعدم.
تنقسم «تغريبة بني حتحوت» إلى أربعة أجزاء.. إلى بلاد الشمال، إلى بلاد الجنوب، إلى بلاد البحيرات، إلى بلاد سعد. وتدور أحداثها فى نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، لتصور أحوال الشعب المصري منذ أيام المماليك وحتى دولة محمد علي، من خلال شكل سردي يستلهم سرديات السير الشعبية وحكايات ألف ليلة وليلة، مُذكّراً بالسيرة الهلالية، ذلك من خلال عدة أجيال من أسرة (حتحوت) الذي نشأ في قرية (تلة) في المنيا جنوب مصر، هذه الأجيال ستشهد على المصائب والكوارث التي حلت بالشعب المصري في تلك الفترة، فالحاكم مهما تبدّل جنسه ومِلّته لا ولن يتغيّر في شيء، ما دام قد تمكّن وتسلط على هذا الشعب، لكن رغم استعراض هذه المآسي والأهوال، إلا أن هناك ثمّة أمل. هذا الأمل الذي جعل مجيد طوبيا نفسه يعلن قبل وفاته بفترة عن تبرعه بمكتبته الخاصة لصالح جمعية الشبان المسيحية في المنيا، مسقط رأسه، كذلك تبرع بالمنقولات والنقود المتبقية فى حسابه البنكى لصالح مؤسسة مجدي يعقوب للقلب في أسوان، وأيضاً بالحقوق المالية لدى دور النشر طيلة إعادة طبع ونشر أعماله الأدبية لصالح المؤسسة نفسها. ربما يكمن الأمل في الإنسان المصري نفسه، رغم كل ما حدث وما يحدث.. ربما!
بيبلوغرافيا
مجيد إسحق طوبيا، من مواليد محافظة المنيا جنوب القاهرة في 25 مارس/آذار 1938. حصل على بكالوريوس كلية المعلمين قسم الرياضيات عام 1960، ثم دبلوم السيناريو عام 1970، ودبلوم الإخراج السينمائي من المعهد العالي للسينما في القاهرة عام 1972.
ـ الأعمال الإبداعية: المجموعات القصصية.. «فوستوك يصل إلى القمر» 1967، «خمس جرائد لم تقرأ» 1970، «الأيام التالية» 1972، «الوليف» 1978.
ـ الروايات: «دوائر عدم الإمكان» 1972. «الهؤلاء» 1973. «أبناء الصمت» 1974. «غرفة المصادفة الأرضية» 1978. «مغامرات عجيبة وكشك الموسيقى» (رواية للأطفال) 1980. «حنان» 1981. «عذراء الغروب» 1986. «الحادثة التي جرت» 1987. «تغريبة بني حتحوت» (الرواية الكاملة) 2005.
ـ «السيناريو والحوار: قضية صقر» 1972 مسلسل. فيلم «أبناء الصمت» 1974. فيلم «صانع النجوم» 1976. «زيارة ودية» 1979 مسلسل. فيلم «قفص الحريم» 1986. «تعيش زفتي حرة» سهرة تلفزيونية 1998.
«التاريخ العميق للحمير» (مقالات ساخرة) 1996. «الضحك الدولي» (مسرحية هزلية) 2001. «غرائب الملوك ودسائس البنوك» (دراسة) 1998. «عصر القناديل» (دراسة عن يحيى حقي) 1999.
اختيرت روايته «تغريبة بني حتحوت» ضمن أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين، كما اختير فيلم «أبناء الصمت» المأخوذ عن قصته ضمن أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية.
ـ الجوائز: وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1979، وجائزة الدولة التشجيعية في الآداب في العام نفسه. جائزة الدولة التقديرية للآداب عام 2014.