طوبوغرافية الصورة

2022-04-13

محمد الديهاجي

يقصد بمفهوم الصورة الفنية، التحقُّقَ الساحر الحاصل في فضاء الخيال الرحب، من خلال تشغيل آليات البناء، في الذهن والنفس معا عند المبدع، قصد إنجاز وتحقيق صورة تدهش المتلقي وتؤثر فيه.

والصورة الشعرية، هي مرحلة من مراحل البناء التخييلي في الشعر، وشكل من أشكال التعبير، وينبوع متدفق من الأحاسيس والدلالات السيكولوجية، التي يستحيل ـ في غالب الأحيان ـ أن تتجسد عياناً؛ بل إنها لا تنهض بغير انفعالات اللاشعور، وما خفي من الأحاسيس، الشيء الذي يُمكِّن الخيال من أن يكون سحر اللغة في عالمه البطليموسي. وبناء عليه فإن الصورة الشعرية، هي عمل ذهني، يتجاوز حضور موضوعها.

هكذا تصير الصورة الشعرية، محاولة تكثيف عاطفي ووجداني، للتجربة الوجودية، بلغة إيحائية، قصد تحقيق الفعل والقول الشعريين، فضلا عن أنها عمل ذهني خالص ينقل «عقدة» معينة (قد تكون هذه العقدة فكرية أو عاطفية) من تجربتها الوجودية المعيشة إلى لحظة أكثر رمزية.

إن ممارسة اللعبة الشعرية، من داخل الصورة الفنية، هي ممارسة للخلق والابتكار، لا ممارسة للتمثيل الذي لا ينفذ إلى عمق الأشياء، وعمق الوجود المتجلي والغائر في الوقت نفسه، إذ لا يمكن للتجربة الشعرية أن تكون رؤيوية بغير سحر الصورة الفنية، فالشاعر والناقد أدونيس يميز بين عالمين في التجربة الشعرية: عالم ينتهي عند حدود التمثيل من خلال تجربة نمطية، وآخر يتجاوزه إلى إعادة البناء والخلق من خلال تجربة رؤيوية (تصويرية). الصورة الشعرية إذن، شكل من أشكال ترميز هذا الوجود وتكثيفه، من خلال تذكر واسترجاع معطيات حسية، أو من خلال تفعيل كيمياء الذهن وخبرته، قصد استثمارها في الخلق والإبداع والإضافة وليس التذكر. فبالصورة الشعرية، يمكن إضافة لحظات وجودية عميقة ومعتمة، هي بمثابة كنه الكينونة، بهدف صبغها بحركية الزمان والمكان الرمزيين.

وبهذا الفعل تغدو الصورة مركزا لإضاءة المناطق الأكثر غرابة والأكثر دهشة، في هذا الوجود، من أجل استكشافها والقبض عليها، في شكلها السديمي، بحيث لا يقوم الشاعر سوى بمنحها دلالات ومعاني جديدة، من خلال إعادة ترتيبها. وعلى هذا الأساس تكون الصورة الشعرية «هي العملية الشعرية كاملة، تعكس واقعا فنيا موحدا، دالا إيحائيا منتظما، وتشكيلا محددا، تحكمه حركة متصلة، تحدد بانتهاء دائرة الصورة المنجزة داخل السياق العام». (سمير علي سمير الدليمي «الصورة في التشكيل الشعري»). وإذا حاولنا التدقيق في مصدر هذه التركيبة التعبيرية (أقصد الصورة) فإنه ستظهر لنا عبارة عن نوع من الكثافة الوجدانية والنفسية المشكلة في حزمة رموز تعود بالصورة إلى منطقة اللاشعور، الذي هو مجال خصب لمادة الشعر. وعليه فإن الصورة الشعرية، هي تعبير ملغوم، عن تركيبة نفسية معينة، مصدرها تفاعل الذات في هذا الوجود مع التجارب الأخرى، في أفق نسج وتلمس سيكولوجية الذات الشاعرة، بشعورها ولاشعورها، ما يجعل اللحظة الشعرية، من خلال الصور الشعرية، محاولة واعية لإعادة ترتيب هذا التفاعل الكيميائي داخل اللاشعور، وحبكه في قالب صوري، قد يكون بصريا أو سمعيا أو سيكولوجيا. إلا أنه، على الرغم من وعينا بهذه اللحظة، يتسلل مجموع العناصر اللاشعورية، بشكل إرادي وغير إرادي، من رقابة الوعي إلى فضاء الصورة، قصد طبعها بطالع الصدقية. وبهذا المعنى تكون الصورة الشعرية، شعورا وجدانيا، بحجب أكثر رهافة وعمقا، ليس في مكنة غير الخيال، تخطيط ملامحها، وهتك حجبها. يقول الدارس سمير علي سمير الدليمي: «وتظل الرؤى في الأحلام أو التهيؤات أو تداعيات الصور واختراقها وتأليفها في المخيلة والخواطر الجميلة والإحساسات الشعرية، تظل كل هذه في ماهية الصورة، سواء منها الأشكال الناقصة في الحلم أم الخيال أم الكاملة أم الترائي الممتد والمتلاحق الخطوط والأشباح التي تتراءى للبعض بشكل عام وللفنانين بشكل خاص بوصفها منابع ثرة للصورة، تقع أيضا في ماهية هذه الصورة».

إن لمكونات الجانب النفسي في عملية إنتاج الصورة الشعرية دورا أساسيا في تركيز واختصار كل المرجعيات الحسية، في حركية نفسية، تتعامل مع كل المعطيات المرئية، تعاملا يرتدي دلالات نفسية يصعب تحقيقها في العيان. فكل الدلالات الواقعية، تتحول في الصورة الشعرية إلى دلالات سيكولوجية، فحتى الأمكنة، هي أمكنة نفسية لا غير. الزمن أيضا لا ينضح بغير شحناته النفسية، وعلى الذات الشاعرة أن تخلق في هذه العملية، حوارا جوانيا يستنطق مناطق اللاشعور وجهات الغرابة فيه. «ومن هنا كانت الصورة دائما غير واقعية وإن كانت منتزعة من الواقع، لأن الصورة الفنية تركيبة وجدانية تنتمي في جوهرها إلى عالم الوجدان أكثر من انتمائها إلى عالم الواقع» (عز الدين إسماعيل «الشعر المغربي المعاصر ـ قضاياه وظواهره الفنية والمعنوي). وكلما استطاعت الصورة أن تستنطق المخبوء في دهاليز الوجدان، إما عن طريق الإدراك الحسي أو الحدس أو الخيال أو الرؤيا، (وهي ذروة التصوير الشعري الذي يتحول فيه الشاعر إلى نبي يكتنه حقيقة وجوده ويستشرف آفاق مستقبله) أشعت الضياء في الأشياء، لينقشع الوجود بشكل لا لبس ولا غموض فيه، فلا يمكن أن نتصور شعرا نوعيا، يريد أن يكون نفاذا ونبوئيا، دون أن ينبني على الصورة النفاذة، والرؤيا التي تعشق امتلاك الأشياء على حد تعبير الناقد أدونيس.

وحتى تصل الصورة الشعرية إلى هذا المستوى من الدهشة والإضاءة، ينبغي لها أن لا تفارق ذلك الناظم الرؤيوي، الذي يوحد بين المتناقضات، لأجل الخلق والابتكار، في تجاوز تلقائي لمبدأ المقايسة، فالشاعر الذي لا يستطيع تفجير مخيلته، والإتيان بمثل هذه الصور الرؤيوية، أو أن يتفنن في عملية الربط بين أطراف الأشياء المتضادة، إنما ينتج صورا تموت لتوها بعد ولادتها مباشرة.

هكذا نستنتج أن الصورة الشعرية، قد تكون خلاقة، فتحدث الدهشة والمتعة في نفسية المتلقي، وهي بذلك، تضمن لنفسها حق الاستمرارية والديمومة، وقد تكون تشبيهية وتمثيلية، على حد تعبير أدونيس، حينها تتجرد من الناظم الرؤيوي، وتبنى على الانفعال العابر، معلنة بذلك عن موتها الفوري.

إن الصورة الشعرية الخلاقة، من بين ما تراهن عليه، هو إحداث المتعة واللذة والتأثير، في صفوف جمهور القراء، على اختلاف تلويناتهم الفكرية، وكذا تشكيلاتهم الطبقية، وعلى امتداد العصور والأزمنة. إنه الشعر الحقيقي.. شعر الروائع الخالدة. واهتمام من هذا القبيل بالصورة الشعرية، هو اهتمام أيضا بالمتلقي وبالأثر الذي تحدثه الصورة فيه. المتعة، اللذة، الدهشة، الفتنة، كلها تعابير تعبر عن إحساس واحد يعكس جمالية الصورة وقدرتها الفائقة على خلق عوالم الغرابة في لحظات رمزية مطلقة. إن وظيفة الصورة الشعرية من خلال هذا الفهم، هي من جهة أولى وظيفة حوارية، بفتحها لأبواب المساءلة داخل الذات المبدعة، وكذا الذات المتلقية، قصد استنطاق المجهول واستكشاف ضفافه، وأيضا بفتحها (الوظيفة الحوارية) نقاشا مطولا بين أفق انتظار horizon d’attente الشاعر الذي يروم تغيير المفاهيم والمعايير المتداولة، بفعل الانزياحات المتكاثرة داخل الصورة الشعرية، وأفق انتظار المتلقي الذي من المفروض أن يتفاعل مع هذه الصور، بعد مرحلة المتعة والفتنة والدهشة.

ومن جهة ثانية هي وظيفة فيتيشية وشهوانية، تنحو منحى إيروتيكيا بفعل الفتنة التي تخلقها الصورة، في ذات القارئ، وكذا اللذة التي يشعر بها، وهو يراود مناطق الإغراء والإثارة، بغية الكشف عن خبايا الوجود، وضفاف المجهول، ما يخلق لديه حالة من الإشباع، بعد كل قراءة ـ مراودة. وهنا، تحديدا، يمكن التحدث عن تعدد القراءات بالنسبة للصورة الواحدة. فمع كل قراءة جديدة، نستكشف جزيرة من أرخبيل الصورة، ودلالة من دلالاتها.

شاعر وناقد مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي