حين يكون التدوين الذاتي موضوعيا: قصة حياة أحمد أمين

2022-04-12

شكيب كاظم

كانت بداية معرفتنا الثقافية به، يوم نما إلينا خبر إصداره كتبه التي بحثت في الشأن الإسلامي، وقد شاع في عقدي الثلاثين والأربعين من القرن العشرين، التدوين في الشأن الإسلامي، إذ كتب الدكتور طه حسين (ت 1973) «على هامش السيرة» و»الشيخان» ويقصد أبا بكر وعمر و»الفتنة الكبرى» بجزأيها، فضلاً عن الذي كتبه عباس محمود العقاد (1946) في عبقرياته، فقد أصدر الأديب المصري والأستاذ الجامعي أحمد أمين إبراهيم (1886-1954) كتابه «فجر الإسلام» الذي أثار ضجة واسعة في العراق وسوريا، فألفت عديد الكتب لمناقشة ما ورد فيه، ويوم يشخص لزيارة العراق، عوتب لدى زيارته كربلاء والنجف، أشد العتاب؛ عاتبه الشيخ الجليل محمد حسين آل كاشف الغطاء، صاحب الكتيّب الوثائقي «المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون» وله قصة طويلة لا مجال هنا لسردها؛ عاتبه لأنه اعتمد في نقوله على جهة واحدة، وكان الواجب العلمي يحتم عليه نقل رأي الآخر، لكنه يلمس وقد كتب «ضحى الإسلام» وقد أخذ برأي من انتقده، وعرض رأي الفريقين، إنه لم يُرْضَ عنه أيضاً، لأنه كان مناقشا ومبدياً رأيا، ما يدل على ضيق صدر مجتمعاتنا كأنما يصّعَد في السماء، وكان من المؤمل – كما يقول أحمد أمين- أن يواصل إصدار هذه السلسلة حتى ليكتب «عصر الإسلام» بعد أن كتب «ظهر الإسلام» لكن المشاغل التي كان ينوء بها، رئيسا للجنة التأليف والترجمة والنشر، وعضواً في المجمع اللغوي في مصر، وأستاذا في كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول، وغيرها من الأعباء الوظيفية، قد أكلت وقته وبعثرت زمنه ووزعت جهده مع قلة فائدتها» ولو استقبلت من أمري – كما يقول- ما استدبرت لرفضت كل هذه الأمور ونحوها وفرغت لإتمام سلسلة فجر الإسلام وضحاه وظهره وعصره، فلقد كان ذلك أجدى وأنفع وأخلد».

لقد كتب أحمد أمين قصة حياته وأصدرها أخريات أيامه، إذ أصدر طبعتها الأولى سنة 1950، وفيها يصور خلجاته وهو يهم بكتابة هذه السيرة الحياتية التي أطلق عليها اسم «حياتي» وتهيبه من الكتابة في هذا المجال فهو يقول «لم أتهيب شيئا من تأليف ما تهيبت من إخراج هذا الكتاب. فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض أو غيري الموصوف وأنا الواصف، ومع هذا فكيف يكون الإنصاف؟ إن النفس إما أن تغلو في تقدير ذاتها فتنسب إليها ما ليس لها، وإما أن تغمطها حقها، أو تقلل من قيمة أعمالها، أما أن تقف من نفسها موقف القاضي العادل والحكم النزيه، فمطلب عزّ حتى على الفلاسفة والحكماء». والحق أقول: إني قرأت الكثير من السير الذاتية، وكتب المذكرات والذكريات، فكانت «حياتي» أقرب إلى وقائع الحياة والأشياء من غير إفراط ولا تفريط. على مدى أكثر من مئتي صفحة يطوف بنا أحمد أمين، عقودا من الزمن المصري؛ منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، منذ أن غادر عمه وأبوه أرضهما الزراعية في سمخراط، بسبب الضرائب الباهظة، نحو مدينة القاهرة، فيجد عمه له عملا في السوق، في حين ينخرط أبوه في الدرس الأزهري، فيمضي العمر بين المحابر والقراطيس، مصححا لغويا، وناسخا لكثير من الكتب النحوية والفقه الشافعي، لذا كانت كتب الأب الأزهري أمين إبراهيم نواة لمكتبة نجله أحمد أمين، هو الذي أهدى بعضا منها إلى مكتبة الأزهر، حاملة اسم أبيه أمين إبراهيم، وفيها الكثير من المخطوط النادر.

لقد درس أحمد أمين في المدرسة الحكومية، بعد أن كانت البداية في الكُتّاب، وكانت المدرسة الحكومية مما يأتلف مع ذوقه وتوجهاته، لكن الأب الأزهري المتعصب يظل يستخير هذا ويسأل ذاك من الصديق، كي يرشدوه إلى مستقبل ابنه الدراسي؛ هل يواصل ابنه الدراسة في المدرسة الحكومية، أم يرسله نحو الأزهر؟ ويتردد ويتردد ثم يستخير الله ويخرجه من المدرسة إلى الأزهر!

يعتم الطفل الصغير بالعمة ويلبس الجبة وينتعل النعال، فكان ذلك أشق عليه من الدرس في الأزهر، حيث الجلوس على الأرض، والأستاذ على نشز من الأرض عند أحد الأعمدة، أشق عليه وهو يرى تضاحك أترابه الصبيان منه، وعبثهم معه، وهذا الأمر يذكرني بما سرده سهيل إدريس (2008) في روايته الناهلة من سيرته الذاتية «الخندق الغميق» وكما تضرع الصبي أحمد إلى أبيه أن يعفوه من ذلك فما سمع، فقد كان أبو سهيل إدريس رجل الدين المزواج، قد أعار توسلات ابنه أذنا صماء، «ها أنا في سن الرابعة عشرة تقريباً، يُلْبسِني أبي القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والجزمة، ومما آلمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا استطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الأوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ إذا تصابى كلا المنظرين ثقيل بغيض».

أحمد أمين شأنه شأن الكثير من كتاب مصر، كانوا يحضون على الكتابة بالعامية مثل عبد العزيز فهمي، أو سلامة موسى الذي كان يدعو فضلا عن العامية، إلى اللاتينية والفرعونية والفابية، وكما دعا طه حسين إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وسلخ مصر عن محيطها العربي، فإن أحمد أمين يتناغم مع هذه الجوقة وغيرهم لكن بصورة أخف

في الكتب التي أقرؤها، أحاول أن أقف عند مثابات شاخصة، والتقط تصرفات سامقة، تدل على سمو أخلاق، ودفاع عن الحق والفضيلة، وأسجلها عبرة لنا جميعاً وإفادة، فأحمد أمين في كتابه «حياتي» يحدثنا عن حسن باشا عاصم الرئيس المشرف على التعليم في (الجمعية الخيرية الإسلامية) الذي كان قبل ذلك رئيسا للقلم العربي في السراي أيام الخديوي عباس الثاني – حكم مصر من 1892- 1914 وهو آخر الخديوات السبعة الذي حكموا مصر- فأراد الخديوي أن يستبدل أطيانا، أي أرضا يملكها بأطيان للوقف، فلم يوافق هو ولا الشيخ محمد عبدة (1905) فأخرجه الخديوي من وظيفته تلك، فتبرع حسن باشا عاصم بالإشراف على التعليم في (الجمعية الخيرية الإسلامية) ورعايته.

حدث أن تقدم أحدهم لتسجيل ابنه في المدرسة هذه. كانت سنه تزيد شهرا، شهرا واحداً فقط عن السن المقررة، فأبى حسن باشا قبوله، واضعين في الحسبان أن هذا الصبي هو ابن الرجل الذي تبرع بأرض المدرسة هذه لحساب الجمعية، فضلا عن نفقات بنائها وأوقف عليها من أملاكه! معللا حسن باشا عاصم رفضه ذلك: لقد تبرع هذا الرجل للجمعية فوجب شكره، لكن أراد بعد أن يخرق القوانين فوجب صده، فلما الحوا عليه قدم استقالته فاضطروا للنزول على رأيه. وهكذا كان يسير على هذا النمط في ما يعهد إليه من أعمال، وهو نمط من الناس غريب في الشرق المملوء بالمجاملات وقبول الرجاء مهما خالف العدل وخالف القانون».

ومن أجل أن يكون حديثنا متوازنا، فإذ ذكرت هفوة الخديوي عباس إزاء حسن باشا عاصم، إذ أقاله من عمله لأنه لم يلب مطلبه، فإني أدون هذه الواقعة التي تدل – في بعض صورها- على رحابة صدر الرجل وقبوله الأمر الواقع.

حدث أن تقرر سنة 1907 إنشاء مدرسة للقضاء الشرعي، لتخريج قضاة شرعيين، بعد أن كثرت الشكوى من القضاة الشرعيين الذين يتخرجون في الأزهر، وكان الخديوي عباس كارها لهذا المشروع، الذي آزره سعد باشا زغلول وزير المعارف والشيخ محمد عبده، وتعقد جلسة لمجلس النظارة؛ أي مجلس الوزراء بمسميات هذا الزمان، فصوت جميع النظار إلى جانب سعد زغلول، عدا ناظرا واحدا، قال أحمد أمين: فلم يسع الخديوي إلا أن يوافق على رأيهم ويمضي القانون.

دعوات الكتابة بالعامية

أحمد أمين شأنه شأن الكثير من كتاب مصر، كانوا يحضون على الكتابة بالعامية مثل عبد العزيز فهمي، أو سلامة موسى الذي كان يدعو فضلا عن العامية، إلى اللاتينية والفرعونية والفابية، وكما دعا طه حسين إلى ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وسلخ مصر عن محيطها العربي، فإن أحمد أمين يتناغم مع هذه الجوقة وغيرهم لكن بصورة أخف، فهو إذ يُدعى إلى الحديث في الإذاعة، ليتمنى على نفسه لو خاطب الناس بالعامية كي يفهموا! ناعيا على أدباء مصر أرستقراطيتهم وتعاليهم، وأرى أن الأمر الصحيح رفع مستوى الناس عامة، وليس النزول إلى مستوى عامة الناس، والحديث بلغة مفهومة وليست عامية هجينة، وصولا إلى شيوع الثقافة والمعرفة والعلوم، وإذ ذاك لا نجد غضاضة من الحديث بالفصحى لا الفصيحة فقط!

قال أحمد أمين: ومن أجل هذا اقترحت في بعض مقالات نشرتها وفي محاضرة في المجمع اللغوي، أن نبحث عن وسيلة للتقريب، واقترحت أن تكون لنا لغة شعبية، ونلتزم في أواخر الكلمات الوقف من غير إعراب وتكون هي لغة التعليم ولغة المخاطبات ولغة الكتابة للجمهور، ولا تكون اللغة الفصحى المعربة إلا لغة المثقفين ثقافة عالية».ولعل من حسن حظنا وحظ لغتنا أن لقي اقتراحه هذا معارضة شديدة وطوته الريح!

أستاذيته ودكترته

ظلت مسألتان في حياة أحمد أمين، تشغلاني ولم أعثر لهما على جواب حتى قراءة هذا الكتاب الممتع والمفيد، والقريب من وقائع الحياة، والبعيد عن التنفج والزهو بالذات، حتى أنه يذكر الكثير من نقاط ضعفه.

المسألة الأولى: كيف أضحى أحمد أمين أستاذا جامعيا؟ ويأتي الجواب: ودق جرس التلفون في منزلي في مصر الجديدة، وأنا قاض في محكمة الأزبكية سنة 1926، وإذا المتكلم صديقي طه حسين يطلب إليّ مقابلته، وذهبت إلى مقابلته فإذا هو يعرض عليّ أن أكون مدرسا في كلية الآداب، فترددت قليلا ثم قبلت، لنفوري من القضاء وحبي للتدريس، وذهبت إلى الكلية، فوجدت شيئا جديدا عليّ، ها أنذا أطلّق كتب الفقه، وأعود إلى كتب اللغة والأدب والنحو، ودَرّستُ في أول سنة درسين: درسا أقرأ فيه الكامل للمُبَرّد، ودرسا أقرأ فيه البلاغة، ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية.

المسألة الثانية: هي درجة الدكتوراه، فمرة أقرأ اسمه خلوا من الدكترة، وأخرى مرادفة له، ويأتي الجواب: في سنة 1948 قرر مجلس كلية الآداب ومجلس جامعة فؤاد الأول منحي الدكتوراه الفخرية فلقبت: الدكتور أحمد أمين، ومنحت جائزة فؤاد الأول، وهي إحدى الجوائز التي تقدر بألف جنيه مصري وتمنح لمن ينتج أحسن عمل أو إنتاج في الآداب والعلوم والقانون، وقد أقيم حفل كالمعتاد في يوم 28 فبراير/شباط 1948 في قاعة الاحتفالات الكبرى للجامعة سُلّمتُ فيها الجائزة».

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي