الطفولة في مجموعة «البيدر» القصصية للأردني عيسى حداد

2022-04-12

موسى إبراهيم أبو رياش

الكتابة الإبداعية عن الطفولة، انحياز للبراءة والنقاء والطهارة والفطرة والعفوية والبساطة والانطلاق والتسامح والحب بلا حدود، وعالم بلا طفولة عالم ميت لا روح فيه، وعندما يكتب القاص عن ما يعانيه الأطفال من جوع وبرد وحرمان، ويتم وخوف، فهو صرخة في وجه الظلم، وغياب الضمير، وتحجر القلوب، وارتكاسة الإنسانية وتخليها عن أهم مقوماتها، وأنها في غيابات التيه والضياع والخلل والاضطراب.

وأمة تفتقر إلى روح الطفولة في مجموعها، أمة جامدة مترهلة، تتجه إلى الانحدار والذبول؛ إذ الطفولة لا تقتصر على عمر دون عمر، بل هي روح قد تسكن المسنين، كما قد تسكن الشيخوخة الأطفال!

تتضمن المجموعة الأخيرة «البيدر» للقاص الأردني عيسى حداد مئة وثلاث قصص قصيرة جدا، منها خمس وعشرون متعلقة بالطفولة وعالمها ومعاناتها، وهذا تأكيد على اهتمام الكاتب بالأطفال، في بلدان يعانون فيها من الويلات والفقر والجوع واليتم والاضطهاد.

تصافحنا الطفولة منذ السطر الأول من المجموعة، إذ يهدي الكاتب مجموعته إلى الطفولة، إلى حفيده: «أهدي هذه المجموعة إلى حفيدي أويس الغالي..»، ثم تتوالى القصص المتعلقة بالطفولة منبثة من بداية المجموعة إلى نهايتها؛ ليذكرنا بها هنا وهناك، مسلطًا الضوء على مشكلات الأطفال وقضاياهم ومعاناتهم، ويلاحظ أن معظم صور الطفولة في المجموعة صور حزينة، قاتمة، بائسة، تأكيدا لواقع لا يمكن تجاهله أو القفز عليه.

اليتم

فقد الأب أو الأم أو كليهما جرح لا يندمل، وشعور بالنقص والحرمان لا يزول، لم تهنأ الفتاة في قصة «يتم» بصحبة الرجل الذي تبناها بعد سنوات طوال في الميتم، وقد عاهدته على الطاعة والولاء والبر، فقد توفي بعد أيام من فرحتها، وعادت يتيمة من جديد. وفي قصة «عتمة»، ينقطع التيار الكهربائي، فيضج اليتيم بالبكاء خوفا، فيسارع زميله في الميتم بمسك يده، فيكف عن البكاء، بينما تتحقق المعجزة في قصة «معجزة»، فيدر حليب العجوز بعد أن ألقمت ثديها لليتيم الرضيع لتكسب سكوته. نلاحظ في القصص الثلاث معاناة الأيتام، ولكنهم وجدوا من يساندهم، فلم يتركوا وحدهم، وهكذا كل مصيبة تهون بالتشارك والتعاطف والدعم، فالمشاعر الإنسانية دفء يذيب جليد القلوب وصقيع الأرواح.

المرض

مفارقات الحياة قاسية، وتحقق الأحلام قد يتحول إلى كوابيس؛ فالأطفال الذي يحلمون بغرفة مستقلة لكل منهم في قصة «غرفة منفردة»، لا يأملون أن تتحقق كأخيهم الذي حصل على غرفته وحيدا في المستشفى بسبب مرضه العضال. والطفل المقعد في قصة «عطش»، يراقب الأطفال بحسرة وهم يركضون في سباق الضاحية، ويتمنى أن لو استطاع أن يشاركهم ويعطش كما يعطشون.

الفقر والحرمان

أي نقص في احتياجات الطفل الضرورية، هو انتهاك لطفولته وحقوقه، وما أبشع أن يعاني الطفل الفقر والقلة والحرمان من أساسيات الحياة، كالطعام والملبس والدفء والملاذ. في قصة «أمنية طفل» يرجو الطفل أباه أن يشتري له البيت الجميل الذي رآه، بدلا من البنطال والقميص، يتهرب الأب المجروح، وعندما ييأس الطفل يرجوه فقط أن يقف أمامه مرة كل يوم، فينقل الأب كوخه في فسحة بجوار البيت الجميل، ليحقق أمنية طفله. يحدثونهم في قصة «الغول» أنه يأكل الأطفال ليلا، فيدعو الطفل أن يكبر بسرعة لئلا يأكله الغول، فهو يتأخر مساءً في العمل ليوفر ثمن الدواء لوالده. السماء ماطرة، والبرد قارس في قصة «العلم»، والطفل الفقير يرتجف بردا، ينظر إلى محلات الملابس بحسرة، ويراقب الآخرين وهم يمشون مطمئنين ينعمون بالدفء، فيقز فوق سور المدرسة التي حُرم منها، ويتسلق السارية، ويُنزل العلم، ويلفه حول جسده، فلئن حُرم العِلم، فلا أقل من العَلم وبعض دفء. وفي قصة «احتماء» يلجأ الطفل، ويحتمي بالمطر داخل ردن الفزاعة المنتصبة في العراء، فالفزاعة قد تكون أكثر رأفة به من كثيرين لم يلتفتوا إلى معاناته.

عندما تنشب الحروب أنيابها في الأطفال فهم بين ميت ومشوه، فمن نجا من الموت لن يسلم من تشوه الجسد أو الروح، ويبقى أسير كوابيس تعاوده وتنغص عليه طفولته.

التسول وعمالة الأطفال

يضطر الأطفال أحيانا للعمل أو التسول تحت ضغط الحاجة وعدم توفر البدائل، وعمل الأطفال هو شكل من أشكال التسول لأنه محدود الأجر والمردود، ويخضع للاستغلال والظلم. في قصة «طريقة جديدة»، تتعاطف السيدة مع الطفل المتسول، تمسح على شعره الأشعث، وتناوله قطعة من الحلوى. وفي قصة «هدية» يشفق المسلم على طفل «يجلس أمام كنيسة وتحت حر الصيف، ويفرد بسطته، ويستجدي البيع»، فيشتري منه أيقونة، ويهديها إلى جاره المسيحي، في إشارة قوية إلى قوة الترابط بين المسلمين والمسيحيين في الأردن. وعندما يعرض الرجل في قصة «رجل حكيم» على الأطفال الأشقاء الذين يبيعون المحارم والعلكة والحلوى على الإشارة الضوئية أن تعمل أمهم في شركته ليعودوا إلى مدارسهم، يرفض أكبرهم قائلًا: «لن أقبل أن تعمل أمي.. يكفيها عمل البيت وتربيتنا». وفي قصة «همستان»، تبيع الطفلة على بسطة متواضعة، وتقف أمام واجهة محل ألبسة وتحلم بفستان، وتحتار بين الأبيض والزهري، وهي حيرة مترفة، فلن تنال الأبيض ولا الزهري، ولكن الحلم لا يضر، بل يعطينا سببا للبقاء والكفاح.

الألعاب

تذكر قصة «البيدر» بعضا من متع الطفولة قديما، مواسم الحصاد، والسمر على ظهر البيدر، وسماع القصص الشعبية وأمجاد الأسلاف، ومن أجملها الجلوس على لوح الدرّاسة وهو يدور لدرس البيدر وفصل الحبوب عن القش. براءة الأطفال تغيظ أصحاب النفوس السوداء، فعندما رأى الأطفال يلعبون بسرور، على الرغم من رثاثة ثيابهم وفقر حالهم في قصة «قطعة نقدية»، تكدر، فرمى أمامهم قطعة نقد، وسرعان ما غمرته السعادة عندما تحول لعبهم إلى اقتتال. وفي تحوير جميل لقصة «ليلى والذئب»، يهرب الذئب من ليلى، وعندما تناديه في قصة «إكمال القصة»، يواصل الفرار «وفي أذنيه تطن كلمات أبيه (إياك يا بني أن تأمن للإنسان، فهو دوما يطمع في جلدك)». في قصة «يوم العيد»، يريد الرجل الفقير أن يشارك الأطفال رقصهم ولهوهم، وأخذ يغني بأعلى صوته، فتجمهر الأطفال حوله يستهزئون به ويدفعونه أرضاَ، فنهض مغادرا يحمل كيسه.

الحرب

عندما تنشب الحروب أنيابها في الأطفال فهم بين ميت ومشوه، فمن نجا من الموت لن يسلم من تشوه الجسد أو الروح، ويبقى أسير كوابيس تعاوده وتنغص عليه طفولته. في قصة «ابتسامة»، تبلل فتاة اللوحة لوحتها بالدموع، حزنا على بسمتها التي سرقتها الحرب. لم يتورع الجنود في قصة «بابا نويل» من سرقة هدايا الأطفال التي أدخلها الآباء ليلا لتكون مفاجأة لأطفالهم صباحا، وعندما استيقظوا لم يجدوا ألعابهم، ولما خرجوا إلى الشوارع وجدوها معروضة للبيع. تكتشف الطفلة الهاربة في قصة «وقود» أن الجنود يرمون الأطفال كوقود في النار، فيغمى عليها من هول ما رأت. في قصة «نهاية مدمرة»، وعند إعلان اندلاع الحرب، يرتاح الفريق الشرقي أن روسيا معهم، والفريق الغربي لأن أمريكا معهم. وعلى ظهر صخرة يصرخ طفل «وأنا من معي؟». يحزن الطفل في قصة «صورة وطن»، عندما يرى صورة الوطن وقد تضررت كثيرا جراء عوامل الطبيعة، وعندما وقفت الدبابة أمامه، حجبت الصورة، «فلطم الطفل وجهه وصرخ من أعماق قلبه: يا ويلي.. الوطن بح».

نلاحظ أن معاناة الأطفال تثير الأسى والألم، وأنهم ضحايا مجتمعات لا ترأف بحالهم، وتتغافل عن حل مشكلاتهم، ولذا فهي مجتمعات تأكل نفسها بنفسها. وتحمل بعض قصص الطفولة رمزية عالية، مثل الطفل الذي تدفأ بالعلم، فلا دفء للمرء إلا في بلاده، أما الدبابة التي حجبت صورة الوطن، فالجنود وظيفتهم حراسة الحدود وصد الأعداء لا كتم الأنفاس في الشوارع.

إن «البيدر ـ عمّان: أمواج للنشر والتوزيع بدعم من وزارة الثقافة ـ 2021 ـ 223 صفحة»، هي المجموعة القصصية السابعة لطبيب الأسنان العميد المتقاعد عيسى حداد، وقد صدر له من قبل: «مراثون العميان» 2010. «صدر الأخ» 2013. «رحم خرافي» 2015. «جوع» 2016. «خوابي» 2018. «أطر» 2020.

كاتب أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي