
نبيل مملوك
لم يسلك علماء النفس وفلاسفة الذات الطريق عينه لتشخيص الفرد اجتماعيّاً ونفسيّاً. بينما كان فرويد يعتمد على اللاوعي والأحلام والأنا، اتّخذ ألفرد إدلر طريق الخلفية الفردية والثقافية للنفس البشريّة لمقاربة السلوكيات وردود الأفعال وقبله غوستاف لوبون مهّد لدراسة الذات الجماعية ككتلة واحدة موحدة بردات الفعل والأفعال، وهذا ما انعكس على الأدب ووضعنا أمام نصوص متفاوتة الأبعاد النفسية والفلسفية، فاعتمد عدّة روائيين منهم نتالي الخوري غريب في روايتها الطريق الرابع الصادرة عن دار نينوى (طبعة أولى-2021 ) على الحوار كمسرحٍ لتبيان الذوات المختلفة والشخصيات المتبيانة العقد والمتجادلة حول مائدتي الشك والقلق والخلاص من عوالمهم البالية، فأظهرت هذا النفور الذاتي لكل فرد على أنّه اختلاف فلسفيّ وسوسيولجيّ انعكس على مصائرهم ومسار حيواتهم.
هروب الشخصيات من المناجاة إلى الجدل
استهلت غريب روايتها بإشكاليات وجوديّة تنمّ عن فوضى فكريّة تعتلجح إحدى الشخصيّات، وهذا ما يدلّ على أنّ الرواية موجّهة بالدرجة الأولى للقرّاء الإيجابيين جدّاً وفقاً لمصطلح أدرج ضمن نظريّة التلقي حيث تعمّدت الكاتبة أن تبدأ بمحاسبة ذاتية لشخصيّة مؤنثة لتؤكد على مدى نمو التمرد لدى المرأة عموماً والعربيّة خصوصاً "التحولات هي كيمياء الرحلة، رحلة الجذب والفصل بين الكيانات في تحقيق ذاتها" (ص 9)، ولعلّ بقاء الرجل على مدى لا بأس به من صفحات الرواية ثانوية وبعيداً من ضفة الحوار الداخلي الذي تجريه ناردين أستاذة الفلسفة، التي تعتبر تقلّباتها جزء من حريّتها، يؤكد على أنّ التمرد النفسانيّ يبدأ من الذات من الهروب من حاضرها "من لا يسلم نفسه للريح لا يمكن أن يتذوق طعم التحليق! ناردين استيقظي" (ص 10).
فإذا عدنا إلى المعجم قليلاً، وإلى النحو تحديداً، فإنّ فعل التحليق يقودنا بدلالته وسيميائيته إلى الهرب والبحث عن التغيير والعالم الخاص، وأن تلحق هذه الصفة بفعل آمر غايته الرجاء "استيقظي"، منّا هو إلا عنف متصاعد تجاه النفس المقبلة على الرضوخ للرغبة والغريزة العاطفيّة، وخصوصاً أنّ ناردين تحاول ضبط إيقاع ضياعها وحيرتها خصوصاً مع دخول آدم العالم الذي يتوخى ركوب قطار ما بعد الانسانية: "ستخرج كل قاموسها من الكلمات الباردة الى السطح. لا لا. ستترك لنفسها حريّة البوح كما تعبّر عنها أحاسيسها" (ص 11)، آدم الذي أراد أن يعكس أحلامه وساديّته بوضوح من خلال تواجده مع الجماعة المتمثلة بالشلّة التي يجمعهم سامر بدران الناطق الوحيد باسم العقل ومعياريّته أو يفصلهم أحياناً ليتعرّف على أشكال حرّيتهم.
ومن أولى مظاهر سادية آدم، حواره الحاد مع ناردين المناهض للهفته الفردية تجاهها "كم تمنيت لو أنّي ضممتكِ إلى قلبي في عناق لا ينتهي..." (ص 12)، "أتعتقدين أنكِ تتلين مذكراتكِ سيدة سيمون دو بوفوار" (ص 38 ). صحيح أنّ سهام آدم الساديّة لم تصب ناردين لوحدها، وطالت المدرب سامر أيضاً: "هل تعتقد اليوم بأنك تقوم بدور الطبيب "جوزف"..." (ص 52)، لكنّها اتّخذت بُعداً استفزازياً عند ناردين قضى على باقي القصص المأساوية عند باقي الشخصيات، وهنا تكون الكاتبة قد وقعت في فخ الإضاءة على قصّة على حساب قصة أخرى رغم توفير جلّ المساحة النصّيّة لديما ودانيال وبيلا الصحافية التي لم تستطع الفرار من تجربتها.
رغم اعتماد الكاتبة على تقنية تعدد الأصوات الروائية داخل النص الواحد وهذا نادر الحدوث، إلا أنها لجأت إلى السفر لإنقاذ كل الشخصيات من ماضيها، أي أن صاحبة أزاهير العبث تحاول جعل الحاضر مساحة بحدّين حد الهروب وحدّ المغامرة التي انطلقت من رسمة دانيال وبانت على شكل أربع طرقات.
إذن، كانت الصراعات الذاتيّة لدى كلّ الشخصيات تمحو بعضها عند بدء تنظير آدم وحيادية المدرّب وكباش ناردين مع صاحب ما بعد الانسانية، ولم تر الكاتبة إلّا الهرب لإيضاح كلّ صراع ذاتيّ وتأطير كلّ خلفيّة فرديّة وإجتماعيّة ودمجها بأحلامها ورغباتها.
الطرقات وكشف الهويّات النفسية
لم يكن التخطيط للسفر فإذن ضرباً من العبث أو مجرّد رغبة دفنية للبحث عن الذات الجديدة، بل كان مسرحاً آخر أو مجموعة مسارح لصراعات أيديولوجيّة وفكريّة متعدّدة، فالطريق الأول قد شهد انسلاخاً واضحاً لديما المعتنقة والمتعلّقة بعالم الأزياء والألوان والانطلاق نحو عالم التصوّف والزهد والتطهّر من لوثات الجحيم الدنيويّ على طريقة دانتي أليغري "أمس في صلاة المساء، هل شعرتم بما شعرتُ به" (ص 81). هذا التساؤل ما هو إلّا رغبة من الراوي أو الكاتبة بإظهار شرارة التحول الرؤويّ لدى إحدى الشخصيات من الصخب نحو السكون، من العواصف المرتجلة بفنيتها نحو الواقعيّة الساعية نحو الحكمة والتعقّل "أنتم تعتقدون أن إيماني الكبير نبت فجأ ؟ لا لا كنت كمن يترجّح بين شك ويقين..." (ص 83)، ولم يكن الطريق أوّل نقطة تحوّل ومساحة حريّة حكراً على فرد واحد بل كانت مهجراً يكشف عقداً مضمرة عند شخصيات أخرى، فناردين التي كانت في حالة دفاعية تجاه آدم أصبحت تتشارك السادية معه، وهذا ما يؤكد أنّنا دخلنا في حالة تحول رؤيوي ثانية ترجمت بسخرية ناردين من اعتقاد ديما "لقد صليت هذا الشهر ما يكفي لحيوات أخرى" (ص 84) كأنّنا أمام بناء مجتمع متصدّع الطبقات، لا سيّما من ناحية تشتت النخبة المثقفة فيه المتمثلة بشخصيات الرواية، وأهمّها دانيال الذي انزاح عن ديما الذي كشف عقدة لديها " نعم بدأت علاقتي بك انتقاماً من أبي" (ص 91)، أي حبّ من زاوية فرويديّة مرضيّة بطلتها إلكترا بنسخة مفعمة بالأمومة.
لكن رغم أنّ كلّ طريق كان محطّة لكشف هويّة نفسيّة ترتبط بشخصيّة من الشخصيات التي تدور حولها الرواية، وتصنع أحداثها من خلالها، أبقت غريب على ثابت واحد، ثابت يحمل في طيّاته رسالة إنسانية وربّما كونية ، وهذا الثابت قد تجسّد من خلال معارضة آدم لكل التحولات والتبدلات واستهزائه بكل مسار تختاره أي شخصية حتى من ناردين حبيبته اللدودة التي تتورط فيما بعد بجنين بمثابة ثمرة تذكرها بآدم الخطيئة اللذيذة "زمن الأعاجيب ولّى يا ناردين! إذا قصد أحدهم اليوم الطبيب وانتقى مستشفى مجهزاً بأهم المعدّات الطبية، فلأنه بات يؤمن بالعلم وليس بالأعاجيب" (ص 110). ورغم هذا الثبات في معارضة ناردين ومشاكستها، إلّا أنّ الطريق الثاني المعبّد برحلة نحو النيبال قد كشف عن علمانية آدم على الأقل المتنافية مع ماركسية أو "هيبية " دانيال و صوفية ديما، وقلق بيللا العاطفي، آدم التراجيدي المبتسم رغم كل ما باح به من أمل تجاه ما بعد الإنسانية والعلم المتفوق على المشاعر الدينية.
ولم يكن هذا المشهد وهذه المفاجآة إلاّ وليدَي مسار مرتب ومكتوب بدقّة، وخصوصاً أنّ التطرق إلى دو بوفوار وسارتر مؤسس الوجودية الملحدة التي تتقاطع مع حق الاختيار لدى آدم وحريّة ناردين ومشاكسة دانيال الماركسي المتعلق بحبال نوستالجيا اليتم والفن الحالم الذي جسدته باريس. كلّ هذه الدلالات والمشهديّات تثبت ما قاله أدونيس في كتابه مقدمة للشعر العربي: "ثمة مكان يجذب ومكان يخيف" (بتصرف)".
أي أنّ الترهيب والترغيب التي فرضته الأمكنة قد ساهم في كشف هويات الشخصيات وتبديد الهويات السابقة.
ما بين النصين المسرحي والروائي الحديث
يخيّل لقارىء "الطريق الرابع" أنّه أمام مسرحيّة، وذلك نظراً لحضور تقنية الحوار بقوّة وكلاسيكية من خلال علامة الحوار والقول (-) وأسماء المتحاورين بالإضافة الى التمهيد للمشهد والوقفة عند كل صفحة أو بداية فصل "عند خروجه من مطار هيثرو أتى إلى آدم شخصان أنيقان..." (ص 197). لكن تقنية الوصف الملازمة للسرد سرعان ما أعطت النصّ طابعاً روائياً حديثاً بإيقاع سريع، مرهق في بعض الأحيان على القارىء نتيجة تسارع الأحداث وتكشّف المصائر.
ولعلّ حضور الاسترجاع بشكل أساسيّ في القسم الأوّل من الرواية وغياب تقنية الصوت الروائي الواحد عن الرواية يرافقه غياب صوت الراوي إلّا في توطئة المشاهد وتأطير الفصول... مما يعني أن الرواية كانت نصّاً ملك الشخصيات ومسرحاً واسعاً لتأويل الصراعات الفكرية والإشارات الأيديولوجية.
إذن، الطريق الرابع هو رحلة لامتناهية للحيوات وللهويات الراغبة بإيجاد أنفسها، مغامرة لامتلاك الحكمة ما بعد التيه، نصّ يثبت أنّ كلّ فلسفة ورؤية اجتماعية تخلّد حين تراودها حلقة حوارية جدليّة.