النص والسياق: تأصيل تراثي في ضوء البلاغة الحديثة

2022-04-09

مصطفى عطية جمعة

يمثّل السياق في الدراسات اللغوية والبلاغية والأدبية – وأيضا العلوم الإنسانية – الماءَ الذي يتدفق في ثنايا البحث، قد لا تتم الإشارة إليه مباشرة، لكنه حاضر بقوة في أي قراءة تغوص في مسالك النص، وتطوف في دروبه، وتطمح إلى توليد المزيد من الدلالات والمعاني والمرامي والرسائل، وتروم صياغة المصطلحات وتشكيل النظريات. فالسياق هو الحاضر الغائب، في وعي الباحث والمنظّر والدارس والطالب.

وإذا كانت العلوم اللغوية الحديثة قد درست السياق، وحددت طرائقه وأبعاده، فلا يعني أنها أوجدته من عَدِمٍ، وإنما بلورته بشكل أوضح، فأبانته، ونصّت على إجراءات وآليات تُعين على فهمه، وما علينا إلا أن نقرأ محددات السياق، في تنظيراته الحديثة، ومن ثم إعادة قراءة تراثنا العظيم على هديه، ناظرين في سبل تعامل علمائنا القدامى معه، ومدى رسوخه في وعيهم، واعتباره في بحوثهم.

وبعبارة أخرى، فإن كثيرا من العلوم الإنسانية الحديثة وجدت جذورا في ما أبدعته قرائح علمائنا القدامى، فهي ليست نبتة جديدة في أرض جديدة، وإنما غصون متفرعة لغرس قديم. وهذا المراد في مقالنا؛ أن نمسك غصنا من شجرة تراثنا البلاغي، متتبعين موطن تفرّعه، ناظرين في ساقه، متوقفين عند جذوره؛ لنعلم جهود علمائنا القدامى في الفهم والبحث والجد والمثابرة؛ ما جعلهم منتجين لحضارة زاهية، مؤسسين لثقافة راسخة. فأي فكرة مستحدثة قد يكون أهل التراث تعرضوا لها، وساهموا في ترسيخها وفق ما توافر في زمنهم من علوم وآداب وفنون، ما يعني أننا نقف على أرض معرفية تراثية صلبة، تدفعنا لمناقشة الآخر- الحضاري- إن لم يكن بندية، فسيكون بتقديم إضافة معرفية؛ إلى علومه، ليكون تراثنا مغذيا للمعاصر، والمعاصر كاشفا عن جواهر التراث.

كما أن النص في مجمله بناء من الجمل، وأجزاء الجمل، الذي يجمع بينها التماسك والترابط، والتماسك على نوعين: تماسك شكلي خاص بالعلاقات اللغوية المختلفة: النحوية والصوتية والصرفية والدلالية، وتماسك المحتوى الذي يشكل الرابطة المضمونية الجامعة لجمل النص.

أما عن مفهوم السياق فهو شاملٌ للقرائن كافة التي تُسهم في عمليَّة الفهم لغويَّةً كانت أم غيرَ لغويَّة. هذا على مستوى النص ككل، أما على مستوى الجملة، فيعني: مجموع النص الذي يُحيط بالجملة التي يُراد فهمها، وعليه يتوقَّف الفهم السليم لها، أو هو المحيط الذي أُنتِجت فيه العبارة.

فيُعَدّ السياق القرينة الكبرى التي تجتمع عندها مجموعة القرائن المقالية والمقامية ذات العلاقة بمعنى النص وغرض إفادته.

فالنصوص مدونة كانت أم محكية، يتم تركيبها عن قصد من قبل مؤلفيها، على هيئة وحدات كاملة متميزة، ذات بدايات ونهايات محددة، وإن كانت معظم النصوص في استخدامنا اليومي للغة، ليست منظمة في نصوص متكاملة حسب ما نريد.

وبتعبير أدق: هو ما انتظم القرائن الدالة على المقصود من الخطاب، سواء كانت القرائن مقالية أم حالية. فهو عبارة شاملة جامعة لكل دليل لفظي ومعنوي وحالي يفسر الغرض من الخطاب. والقرينة المقالية يتضمنها النص نفسه في مفرداته وعباراته وتراكيبه، وتساهم في تشكيل المعنى المراد، وتعطي المزيد من الدلالات للألفاظ المفردة والجمل، والدلالة الكلية للنص. أما القرينة الحالية، فهي المرتبطة بفهم السياق النصي في ضوء المعطيات الثقافية والفكرية والاجتماعية خارج النص.

والعلاقة وشيجة بين السياق والنص، فكلاهما مكمل للآخر، ولازم لوجود الآخر، فأي نص لا بد من أن يكون فيه سياق، سياق داخلي ناتج عن الدلالة الكلية للنص، والدلالات الفرعية له، والسياق الخارجي الذي يُقرأ النص من خلاله، عبر شبكة العلاقات الثقافية والاجتماعية والفكرية الذي أنتج النص فيها. والنص في المنظور الألسني الحديث يعتمد على تتابع الجمل من جهة، وترابطها من الوجهة الشكلية/ اللغوية، لكن هناك وجهة مضمونية تجعل النص وحدة، أو وحدات كلامية مترابطة، من خلال قضايا منطقية ودلالية. وهو جزء من الخطاب Discourseالذي يشمل مجموعة فكرية وحدتها الصغرى هي النص، في حين أن النص نفسه مجموعة لغوية وحدتها الصغرى الجملة. وفي تعريف أوجز فإن النص منجز لغوي، ذو علاقات ترابطية في ما بين مكوناته، وذو غرض إبلاغي، وبينه وبين الموقف علاقة حضور متبادل (تأثر وتأثير). وللنص معايير أبرزها: السبك، الالتحام، القصد (ويعني موقف المنشئ) القبول (وينصرف إلى مستقبِل النص) رعاية الموقف، أي العوامل التي تجعل النص مرتبطا بموقف سائد يمكن استرجاعه، الإعلامية، وتتعلق بالمعلومات المراد تقديمها في النص، ومدى صدقيتها ووجود بدائل لها أو ما يمكن به نفيها، أو تأكيد ما بها.

وكما يشير حلمي خليل في كتابه «العربية وعلم اللغة البنيوي» فإن النص ـ شفاهي أو مكتوب – أساس عملية الاتصال والتواصل بين منشئ ومتلق، ومخاطِب ومخاطَب، خاضع للأجواء الثقافية والمواقف التي أنتجته كنص مكتوب، أو أقوال منطوقة، فلا تقتصر مهمة اللغة على توصيل الأفكار والانفعالات والتعبير عما في النفس والعقل، وإن كان هذا جزء من مهمتها، وإنما تتخطى ذلك، لتكون نشاطا إنسانيا خاضعة لمجمل العوامل والظروف المؤثرة في هذا النشاط.

فالنصوص مدونة كانت أم محكية، يتم تركيبها عن قصد من قبل مؤلفيها، على هيئة وحدات كاملة متميزة، ذات بدايات ونهايات محددة، وإن كانت معظم النصوص في استخدامنا اليومي للغة، ليست منظمة في نصوص متكاملة حسب ما نريد. أيضا، فإن جمل النص وأجزاءه والتعابير الكلامية المستخدمة؛ تعتبر ضمن الامتدادات الأوسع للنص، وضمن سياق وحداته الكلامية.

كاتب مصري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي