
عاطف محمد عبد المجيد
بعد قوله كثيرة هي الأسئلة، وكثيرة هي الإجابات، وكثيرة هي الحقائق المغيبة، في مقدمته لكتابه «العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية « الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، يقول خالد عزب موجها خطابه لقارئه: أنت هنا ستذهب معي في هذا الكتاب إلى علم آخر لم تألفه في قراءتك، لكننا هنا سنكتشف معا آفاق هذا العلم ومعطياته. إنه علم العمران. عزب يؤكد أن ابن خلدون، كتب في هذا العلم من قبل، لكنه كتب عن جانب منه، ولم يكتب في هذا العلم مُفْردا له ومعرّفا به باستفاضة.
الكاتب الذي لا يهتم بما قيل عن مقدمة ابن خلدون وماذا قدمته، يؤكد أن موضوع كتابه هنا هو علم العمران وهو علم الحياة الدنيا في الحضارة الإسلامية، خاصة أن الله سبحانه وتعإلى سخر للإنسان الأرض وما عليها لعمارة الأرض، وهيأ الله تعإلى الأرض بكل متطلبات هذه الحياة. عزب يرى كذلك أن علم العمران هنا مفارق لنماذج الدراسات الإسلامية التقليدية.
أساس العمران
هنا يقول عزب، إن العمران هو علم الحياة الذي أسس في الحضارة الإسلامية، علم يؤدي بنا إلى أن نعرف كيف نحيا على هذه الأرض، ونتمتع بكل ما أعطاه الله لنا من نعم ونتحدث بهذه النعم، ذاكرا أن مجالات علم العمران هي الأنشطة الإنسانية على الأرض، وما يترتب عليها من تفاعلات حضرية، سواء في مجال المستقر الحضري «مدنا/ قرى/ بدوا» أو في مجالات الإنتاج «زراعة/ صناعة» أو في مجالات الخدمات المختلفة أو التجارة، وما يتصل بذلك من تطورات معرفية وفكرية تعكس نمو الإنسان وارتقاءه عبر العصور. ما يراه الكاتب أيضا أن حضور الإنسان بفاعليته هو أساس العمران، وبهذا فإننا هنا إزاء فاعلية بشرية لها مظاهر مادية وروحية، أفضت لتأسيس حضارة لها منظومة فكرية، والإنسان هو محورها، الذي يعطي للعمران معناه. هنا وحيثما يرى أن العدل هو أساس العمران، يؤكد خالد عزب نقلا عن ابن قيم الجوزية، أن العدل طريق إلى تحقيق مصالح المجتمع والأفراد.
الكاتب يذكر هنا أن التركيز على المهارة في كل صنعة يعني الوصول إلى حد إتقانها والحذق فيها، وقديما ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد طلبوا الإبداع الذي هو إيجاد الشيء من العدم، والابتكار والإبداع من صفات حضارة العمران، والإبداع يكون في كل حرفة وصنعة عقلية كانت أم يدوية أم جمعت بين الاثنتين. ومتحدثا عن الجمال يقول عزب، إن قيمة الجمال ترتبط ببنى ثقافية وتراكمات ذهنية، فنرى التناغم والانسجام ممثلين لهذه القيمة في بنايات المدن الإسلامية، مضيفا أنه على امتداد شوارع هذه المدن نجد الجمال يجذبنا في كل التفاصيل من كل زاوية وركن، حتى أننا حينما ندخل في أجوائها لا نرى إلا كل ما يخطف البصر ويدفع العقل للتدبر والتأمل، ومن هنا فإن إنسان هذه المدن فقيرا كان أم غنيا، كان مشبعا بروح كلها بهجة. ومتحدثا عن العلم أحد أدوات العمران يكتب عزب قائلا، إن السعادة عند المشتغلين بالعلم هي طلب العلم وبذله للبشرية، قمة العطاء عند هذه الأجيال بصورة مثالية تجعلنا نندهش من مواقفهم، وهي ليست غريبة إذ هي تأتي في سياق فلسفة العمران في الحضارة الإسلامية، التي تسعى لعمارة الأرض، ومن هنا كان طبيعيا أن نرى مفهوم العلم يأخذ مساحات جديدة مع الزمن، اكتسبها من التنوع وتعدد الاختصاصات بنمو العلوم، ذاكرا أن الهندسة من العلوم التي ارتقت وصعدت في الحضارة الإسلامية.
تبسيط العلوم
عزب يذكر هنا أن هناك إطارين حاكمين للعمران في الحضارة الإسلامية، الأول هو السياسة وما يتبعها من ممارسة للسلطة وكيفية ممارسة هذه السلطة، والثاني هو فقه العمران الذي يقدم لنا على أرض الواقع قواعد العمران التي تطورت وأعطت الكثير لنسق العمران.
في كتابه العمران يكتب عزب عن الملاحة والسفن عند العرب، كما يتحدث عن الطب والرعاية الصحية قائلا، إن الطب علم وعمل في حضارة العمران، لكنه قبل هذا كله رسالة إنسانية من الإنسان تجاه الإنسان، لذا، يقول الكاتب، لم يكن الطب مطلقا عبر هذه الحضارة عملا تجاريا ذا طابع ربحي، بل رسالة، مؤكدا أن حرص العرب في حضارة العمران على حفظ صحة الإنسان قادهم حتى إلى تبسيط العلوم الطبية، لتكون في متناول أيدي الجميع لإدراكهم ثقل الأمانة التي يحملونها.
عزب يرى كذلك أن أبدع ما أنتجته الحضارة الإسلامية هو، إدراك أطبائها أن المرض النفسي مرض طبيعي يصيب البشر، على عكس التعامل الأوروبي معه، حتى كان هناك العلاج بالموسيقى في البيمارستان القلاووني في القاهرة، وكان هناك أيضا الترويح بالموسيقى كعلاج نفسي على المرضى بالأمراض العصبية والنفسية في البيمارستانات.
عزب، مختتما كتابه القيم هذا، يقول، إن حضارة العمران حضارة تدبّر وإعمال العقل، ولكي نذهب إلى التدبر وإعمال العقل لا بد من البصر، وإذا نظرنا إلى البصر ومعانيه في اللغة العربية، أدركنا من أين أتى الإنجاز الحضاري في علم الحياة، علم العمران. مثلما يقول في آخر سطور كتابه إن المعرفة مفتاح حضارة العمران، التي شُيدت على أسس راسخة متينة، أعطت للناس القناعة/ الرضى/ الطموح/ العزيمة/ المثابرة، فقادتهم إلى الإتقان/ الابتكار/ الإبداع، فساقهم هذا إلى سعادتهم في الحياة الدنيا، فكانت غاية علم العمران عمارة الأرض وغاية عمارة الأرض عبادة الله، وهذا يقود الإنسان إلى سعادة الدارين: الحياة الدنيا والحياة الآخرة.
كاتب مصري