سلطان القيسي في هدْنَةٌ لمُراقَصَةِ المَلكة

2022-04-03

إبراهيم خليل

سلطان القيسي شاعر وكاتب مقالات في السينما والموسيقى وموضوعات أخرى. صدرت له قبل هذه المجموعة الشعرية اثنتان، أولاهما بعنوان «وأؤجل موتي» (فضاءات للطباعة والنشر والتوزيع). والثانية بعنوان «بائع النبي» (موزاييك للنشر والتوزيع) وما إن يذكر سلطان القيسي حتى يتبادر للذهن ما يقال وينشر عن القصيدة التي لا تقوم على الوزن الكلاسيكي المعروف بالبحر العروضي، ولا على الوزن الحديث المعروف بالتفعيلة (الحر) وإنما هي قصيدة متحررة من قيود الأوزان والقوافي. فالشعر على رأي الماغوط يأبى الانقياد لقيود القافية والوزن ولقواعد اللغة والنحو. إذ هو مشاعر وخواطر تنبثق من القلب، وبانبثاقها تكسر حدة القواعد النحوية والعروضية، ولا تلقي بالا لما تقوله معجمات اللسان، على أنه في «بائع النبي» راوح بين النظم والنثر، بين الوزن والتحرر من قيوده، في ثنائيةٍ توازت لديه ثنائية الحب والحرب.

وإذن تهيْمنُ على «بائع النبي» ثنائية الحبّ والحرب (أنظر كتابنا: اجتهادات نقدية ـ هبة للنشر، عمان) أو الحياة والموت، أو الوجود والعدم. في أداء شعريٍّ تطغى عليه أيضا ثنائية النظم والنثر، فالقيسي لا يجد حرجا في أن يجمع بين ما يعرف بقصيدة النثر، وقصيدة الوزن، سواء منه ما يعتمد التفعيلة، وحدة وزنية، أو ما يعتمد البحر ذا الشطرين، على قلّةٍ، بيد أنه في هذا كله يطرح القافية جانبا، فهو إلى الترسُّل في الشِعْر أقرب منه إلى التقْفيَة. وقد يلاحظ القارئ، بلا تحفظ، أن القيسي يمتلك القدرة على التحرر من النثرية، ففي إحدى القصائد، وهي قصيدة (غودو) يقدم لنا قصيدة تجمَعُ بين تراكم الصور وانتظام الوزن، وسلاسة الجرس الموسيقي، وعذوبته، وتواتر القوافي في مواضع متباعدة. غير أنه في قصائد أخرى لا يراعي الدقّة والانسجام، فقد يخرج من تفعيلة لأخرى، أو من الوزن إلى النثر، وهذه سمة قد تشير إلى طابع التجريب في قصائده. وهو تجريبٌ تؤكده نزواتٌ منها اعتماده على الكتابة المكثفة التي تتألف فيها القصيدة من سطْر واحد، أو أسطر قليلة. والتنويع القائم على المزج بين مفرداتٍ عاميَّة وأخرى فُصحى، والكتابة بعناوين غير عربيّة الأحْرف، ما يشير إلى هذا الهاجس التجريبي ويُؤكدُه.

مراقصة الملكة

في «هدنة لمراقصة الملكة» يواصل القيسي تشديده على ثنائية الحب والحرب، التي وجدنا ظلالها تهيمن على ديوانه الثاني «بائع النبي» (انظر الدستور الثقافي 10/ 2/ 2022) متبعا الأسلوب نفسه مع شيء من المبالغة في كسر نمطية اللسان. فالشعر عنده – ها هنا- تراسُل دلاليٌ، وتفاعل يتجاوز الحدود المعجمية المصطنعة بين المفردة والأخرى. فالصورة الشعرية بألوانها النقية، يفيض منها الضوء على الظلال، والزيت على الحكمة، والخيوط على الرحمة. في أداء شعري يؤكد أن الطريق التي يقود القارئ فيها ليست موطأة، ولا ممهدة، لأن أيا من الشعراء لم يطأ تلك الطريق، ولذا فهي طريقٌ بكرٌ يسلكها للمرة الأولى:

نزحف نحو الحتفِ خفافا وثقالا

ونضيء الأفئدة بزيت الحكمة

ونحجّ على طرف الفستان المشغول

بخيوط الرحمة

والشَعر لدى القيسي ليس لعبة، ولا شيئا يسيرا، سهْلا هينا، فهو أعقد مما يظنه الشعراء والمنجمون وحتى العشاق السابقون، الذين ملأوا الدنيا نسيبا وتشبيبا وغزلا عذريا وغير عذري، لأن الشعر في اعتقاده كالرقص الموجع، وكالرسم على الزجاج، لا بد في ممارسته وإنجازه من أن يتحمل الشاعر ضربا من الألم المبرّح:

بالصبر

بالألم

بحبي صنعتُك يا بَطلي الجميل

وعلاوةً على أن الشعْر ليس بالشيء اليسير الهين، كذلك الحب ليس بالأمر الهين، فهو مزيج من القسوة والألم، والالتزام المتبادل بمواعيد لا تخلو من صدَمات:

أجرِّب أن أحبك بقسوة

فتؤلمني يداي

من شدة طرْقي الهواء

وفي بعض قصائده تصف المرأة نفسَها وحبّها ووجهها المقشّر مثل جدار رطب، وتصف عينيها الزرقاوين، ومشيتها التي تشبه الزيتون في العاصفة، فتأثير الحبّ فيها كتأثير المعجزة:

أصاب الحب كل أراضيْ

وكل نباتي وعاطفتي

أصابعي صارت أطول

جذعي ازدادت حلقاته

وصدري اتسع

واللافت للنظر أنّ الديوان لا يتألف من قصائد تتوإلى بعضها تلو بعض كغيره من الدواوين، فهو يقسمه على ثلاثة فصول، أولها الملكة، وثانيها شرق أوسطيون في الميترو، والأخير شؤون خاصة في المحطة العامة. وفيها يتنقَّلُ بنا من مظاهر إحباط عاطفي لمظاهر أخرى. ويتجسّد هذا الإحباط في تركيزه على مفردات مثل: الصمت، الجراح، والغوغائية، والتبجُّح، وذكريات الحرب في الأندلس، واستعادة الصليب، غير أن ذلك كله ينتهي بالمتكلم إلى:

تنجب أولادا بدماء حارة

يلحقون الضجر بالعصي

يلبسون الجينز، ويلعنون أميركا ليل نهار

متعلقون مثلي بموسيقى الروك والجاز والطرب الشرقي

على السواء

على أنَّ هؤلاء الذين يهتفون ضد أمريكا ليسوا بمنجىً من الموت، فنحن في الشرق الأوسط نحيا في دائرة مرعبة اسمها الموت، ولهذا يكتب القيسي في هذا الديوان عن الحرب مثلما كتب عنها وعن ويلاتها في «بائع النبي»

فانتازيا الموت

أكبرُ من أنْ تحاصرني في قصيدة

فإنسان اليمن السعيد مثلا يعاني عجزا، وقصورا، إذ لا يستطيع أن يقول شعرا، ولا أن يبني قلاعا لأن يديه تفتقران للعزيمة، وصلابة الإرادة. لهذا تحترقُ الأشجارُ وتتهدَّمُ البيوت، وتغدو طعاما سائغا لحرائق الحروب، فهو مجرد رجل لا حول له ولا طول، في مواجهة السيل العَرِم:

لكنني

مجرَّد رجل في مواجهة الماء العَرِم

الذي قتل أسلافي آنفا

في اليمن السعيد

فالعربُ، مثلما يراهم القيسي، وهذا اليمني، بلادٌ مفتوحة أما الغُزاة، يجتاحونها متى شاؤوا، يقتلون من يقتلون، ويشربون دماءَ القتلى مثلما تشرب القهوة في الصباح على الريق:

نحن العرب بلادنا

مفتوحة كمضافاتنا

وضيوفنا لا يشربون القهوة

يشربون دماءنا

ويفلّون حسن نياتنا بحمر النوايا

ولا نتعلم منهم سوى

لشدة في الجلد. جلد أبنائنا وجلد أسمائنا

وجَلْد ذواتنا بسُعُفِ عماتنا النخلات

تختلط في هذا الشعر الإيحاءاتُ والدلالات. فباستخدامه حمر النوايا، إزاء حسن النيّات، وجَلْد الأبناء والأسماء، وجلد الذوات بالسعف التي هي عمات، رقعة شعرية لا تخلو من مفارقاتٍ لفظية مثيرة للانتباه، لافتة للنظر، على الرغم من أنها تقْرُب بنا من الأداء المباشر. فالشاعر سلطان القيسي كما هو في ديوانه «بائع النبي» لا يفتأ يصل الحبّ بالحرب، بما تعنيه من قتل وموت وتدمير، فعندما يريد المتكلم في قصيدة «على رأسي طائرٌ أزرق» الكلام عن الحب يجد نفسه – دون أن يشعر- يتكلم عن الطائرة التي تقصف وبقصفها تدفن البيوت، وتئدُ الأغاني، وفيما هو يريد الكلام عن الموسيقى، وعن الإيمان، وعن الضحكات المتعبة على سفوح الجبال وفي التلال، يجد نفسه تمتنع عن ذلك، وهي تحدق في شريط الأخبار، وتتلقف الأخبار المزعجة:

الكفْرُ، واللحى

ترسم خرائط القتْل

صفوة القول، وتحصيل الحاصل، أن هدنة القيسي لمراقصة الملكة تجربة شعرية جريئة، تمثل امتدادا لتجربته في «بائع النبي». وهي تجربةٌ تقوم على تحرير اللغة الشعرية من قواعد النظم، والتوسُّع في الاستخدام المجازي للكلمات، والاطراد كذلك في نسج الصورة المبتكرة التي لا تخلو، في جلّ الأحيان، من مفارقات لفظية تعد خرقا لما هو معروف، وتجاوزا لما هو سائدٌ ومألوف. وهو بهذا ينسجم مع رؤيته للشعر، وكتابته، وأنه ليس بالأمر اليسير الهين. فهو، مغامرة يتخطى فيها الشاعر الحقيقي حدود الإمكان، منتزعا بذلك علائم الإجادة والاستحسان.

كاتب أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي