رواية «الموت والبطريق» لأندري كوركوف: متاعب أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفييتي

2022-04-01

مولود بن زادي

اللافت في الأدب الساخر اعتماده على الضحك – لا لأجل الضحك وإنما للتعبير عن نقيضه، منطلقا من قراءة الواقع لتعرية الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي فكاهيا، وتشخيص نقائصه وعيوبه، وانتقاد ما فيه من رذائل وحماقات وانتهاكات وظلم في حق البشر. وقد أحسن شمسي واقف زاده تعريفه في كتاب «الأدب الساخر، أنواعه وتطوره مدى العصور الماضية» مؤكدا أنّ «السخرية فــي الأدب فن ينم عن ألم دفين ويشــف من كرب خفي يريد الكاتب اللجوء إليه ليداوي ألمه بالضد، ويشفي كربه بالنقيض، ومن هنا كان الألم الذي يشــعر به الأديب أو الشــاعر، وعدم قدرته على إلغاء أسباب هذا الألم هو الدافع وراء هذه السخرية التي يصطنعها».

وفن السخرية الأدبية من الأساليب الأدبية العريقة، اشتهر به كثيرون أمثال الكاتب الإغريقي إيسوب، وهوراس، ورائد الأدب الإنكليزي ومؤسس لغته جيفري تشوسر، والمؤلف الكوميدي المسرحي الفرنسي موليير، وأدباء معاصرون أمثال البريطاني جون أوليفر والمصري باسم رأفت محمد يوسف، والأوكراني أندري يوريفيتش كوركوف الذي اتسمت مؤلفاته بسخرية لاذعة وفكاهة سوداء، تجسدهما رواية «الموت والبطريق» الصادرة عام 1996، والمترجمة إلى اللغة الإنكليزية عام 2001.

النفوذ السوفييتي

رغم تفكك الاتحاد السوفييتي وجلائه عن أوكرانيا عام 1991، بقي التأثير السوفييتي حاضرا في جميع مجلات الحياة، ممهدا السبيل، على الصعيد السياسي، للغزو الروسي الجاري للجارة المستقلة المنفتحة على العالم، والقريبة من المجتمع الغربي. التأثير الروسي في الحقل الثقافي، تعكسه هيمنة اللغة الروسية التي تبقى لغة سيدة في أقاليم مثل شبه جزيرة القرم، حيث أكد آخر إحصاء سكاني أجرته أوكرانيا عام 2001 أن أكثر من 58٪ من سكان القرم يعتبرون أنفسهم روسيين، وأنّ 77٪ يعتبرون الروسية لغتهم الأم. والروسية هي اللغة التي كتب بها أندري كوركوف ما يناهز عشرين رواية، ومنها روايته الشهيرة «الموت والبطريق».

صراع لأجل الحياة

تدور أحداث رواية «الموت والبطريق» في العاصمة كييف ومدينة خاركيف، ثاني أكبر مدينة أوكرانية في الفترة 1996 – 1997. بطل الرواية فيكتور زولوتاريوف، كاتب محبط لا تعرف قصصه القصيرة طريقها إلى النشر، كما جاء في مطلع الرواية، «كان (فكتور)عالقا في شبق بين الصحافة والقصاصات النثرية الهزيلة. فخير ما كان في وسعه كتابته قصص قصيرة، وجيزة، لن يكسب منها قوته حتى إذا حصل منها على دخل». في هذه الأثناء، يعرض عليه محرر إحدى الصحف وظيفة جديدة مغرية يقبض منها 300 دولار شهريا تتطلب منه كتابة مقالات تنعى شخصيات معروفة يرتقب وفاتها. يسأل فيكتور رئيس التحرير: كيف نختار شخصياتنا؟، فيردّ عليه: ليس ثمة ما هو أسهل من ذلك! أنظر إلى الذين تكتب عنهم الصحف واختر منهم من تشاء». يقبل فيكتور العرض متطلعا إلى كسب لقمة عيشه، ونيل مكانته كاتبا في المجتمع الأوكراني. لم يكن يتصور أبدا أن إحدى مقالاته ستثير أكبر زوبعة في المدينة. كان ذلك إثر وفاة إحدى الشخصيات السياسية في ظروف غامضة، منشور الصحيفة أدى إلى زيادة طلب مفاجئة على مقالات فيكتور، ممهدا السبيل لمكاسب مادية وشهرة كان في أمس الحاجة إليها. سعِد بذلك لكنّه شعر بالذنب، وتألّم لما أدرك أن كتاباته قد أضرمت حربا ضارية بين عشائر المدينة، وأنه تسبب في إثارة أحداث العنف والفوضى في المجتمع.

الترميز بالحيوانات

عندما تعاني حديقة حيوان كييف من صعوبات مادية، تضطر إلى البحث عن متطوعين قادرين على رعاية الحيوانات وإنقاذها من شبح الجوع المتربص بها. فيتبنى فيكتور ـ الذي كان آنذاك يعيش منفردا – بطريقاً اسمه ميشا، «حلّ البطريق ميشا عند فيكتور قبل سنةٍ عندما كانت حديقة الحيوانات تقدم الحيوانات الجائعة لكل شخص قادر على إطعامها. فقصدها فيكتور وعاد منها يحمل بطريقا. كان الرجل يشعر بالوحدة بعدما هجرته صديقته قبل ذلك بأسبوع. لكنّ ميشا أتى نفسه يجرّ شيئا من الوحدة، والنتيجة الآن وحدتان متكاملتان، ما يخلق انطباعا بالاعتماد المتبادل أكثر من الصداقة». يشترك فيكتور وميشا في الشعور بالوحدة والتشتت. فيكتور يشعر بغربة في وطن مشتت مضطرب لا يعرف السلام. وميشا أيضا لأنه يحيا بعيدا عن حديقة الحيوانات التي اختارت التخلي عنه، وبعيدا عن بيئته الأصلية القطب الشمالي.

المثير للانتباه في أدب أندري كوركوف الترميز بالحيوانات، وإسقاط أفعال البشر عليها. فالبطريق في هذه الرواية رمز للكائن اللطيف والخجول والواعي بذاته. يتردد استخدام الحيوان في كثير من مؤلفاته أمثال «البطريق المفقود» 2005، «روايات البطريق» 2006، و»لماذا لا أحد يداعب رسام القنفذ» 2012. ولعل ذلك يفسر أثر الحيوانات في نفسه أثناء طفولته. بدأ الكتابة وهو لا يتجاوز السابعة. كانت له ثلاثة هامستر، ولما نفق منها اثنان، كتب قصيدة صور فيها عزلة الهامستر المتبقي.

أوكرانيا بعد العهد السوفييتي

يبدأ الكاتب في سرد الواقع الأليم الذي تلا انجلاء الحكم السوفييتي عبر فصول الرواية المؤلفة من 277 صفحة. كان الشعب الأوكراني كبقية الشعوب المنفصلة عن الاتحاد السوفييتي يتطلع إلى تشييد مجتمع آمن ومستقر، لكنّ قطار أوكرانيا لم يسر في ذلك الاتجاه في بداية الأمر، مع توالي موجات الاغتيالات، وعمليات إعدام الصحافيين. تصفية الحسابات والاغتيالات ـ كما يصورها الكاتب ـ تعدت كل الحدود ولم تكن تعرف التوقف، «برك من الدماء على الطريق، ثلاث سيارات إسعاف استغرقت 30 دقيقة للوصول، وسبع جثث وخمسة جرحى. وتشير البيانات الأولى إلى أن من بين القتلى نائب وزير الرياضة، ونائب الدولة ستويانوف». تصور الرواية معاناة الأوكرانيين من انعدام الاستقرار والأمن في ذلك العهد، «سأل فيكتور الصبية سونيا بعد الإفطار: هل يمكنك البقاء هنا بمفردك؟ فردّت: قال لي أبي، لا تدعي أحدا يدخل، ولا تردي على الهاتف، وابتعدي عن النوافذ».

أبطال الرواية ليسوا أقوياء في وسعهم تغيير مجرى التاريخ والعالم من حولهم. إنهم بشر بسطاء يتشبثون بحبل الأمل، ويصبون إلى البقاء في عالم يديره الكبار، أصحاب القوة والنفوذ. ورغم ضعفهم، يحتفظون ببراءتهم وكرامتهم ولطفهم.

الفساد وصعوبة الحياة

من مخلفات العهد السوفييتي استشراء ظاهرة الفساد والانحلال الأخلاقي الذي يجسده قبول المال والاحتيال. ويتجلى الفساد في سرقة الأموال العامة. حتى التبرعات الموجهة للمعوزين لم تسلم من ذلك. فعندما انطلقت حملات جمع التبرعات لدعم العلماء الأوكرانيين، وفكّر فيكتور في التبرع بـ20 دولارا، لم توافقه على ذلك نينا التي تعرّف عليها لاحقا، قالت، «هذا إهدار للمال. ستُسرق هذه النقود وحسب. ألا تذكر ما حل بتبرعات مستشفى تشيرنوبيل للأطفال؟» وتتجلى صور الفساد أيضا في «نقل المهاجرين غير الشرعيين عبر الحدود الأوكرانية البولندية في مروحيات عسكرية، والتأجير الدائم لطائرات النقل الجوي.» صعوبة الحياة في أوكرانيا آنذاك يترجمها أيضا نقص المرافق الاجتماعية والصحية الضرورية للحياة. نلمح ذلك في حديث فيكتور مع البطريق، «تعتقد أنك قرد، أليس كذلك؟» صاح فيكتور «احذر! إذا سممت نفسك فأين نجد طبيبا؟ ليس لدينا ما يكفي لعلاجنا نحن البشر! يستحسن أن أعطيك بعض السمك». ويتردد ذلك في فصول أخرى، «ما الذي يمكن عمله حيال ذلك؟ هل يمكن علاجه؟، فضحك بيدالي وقال: هذا جيد! إنهم لا يعالجون الناس في الوقت الحاضر، ناهيك من طيور البطريق!».

التاريخ والعالم

تسعى رواية «الموت والبطريق» لتسليط الأضواء على حقبة انتقالية صعبة في سجل تاريخ أوكرانيا بعد انفصالها عن الاتحاد السوفييتي. انجلى ليل العهد السوفييتي، وبقي الظلام يخيّم على أرجائه، فتهبّ في أجوائه زوابع التخلف والفساد، وعواصف العنف وتصفية الحسابات التي بلغ أثرها أعلى الهرم، مضرمة نيران الحرب بين كبار الشخصيات، مثلما جاء على لسان أحد شخوص الرواية، «إنها حياة صعبة تلك التي يحياها أولئك في القمة… إنها شكل من أشكال الحرب».

أبطال الرواية ليسوا أقوياء في وسعهم تغيير مجرى التاريخ والعالم من حولهم. إنهم بشر بسطاء يتشبثون بحبل الأمل، ويصبون إلى البقاء في عالم يديره الكبار، أصحاب القوة والنفوذ. ورغم ضعفهم، يحتفظون ببراءتهم وكرامتهم ولطفهم. إنها روح الإنسانية التي يجسدها بامتياز بطلا الرواية، فيكتور الذي يحرص على إنقاذ البطريق من الجوع والموت، رغم مشاكله وبساطة حاله، والبطريق الذي رغم حزنه لبعده عن بيئته يتشبث بالحياة محتفظا بلطفه ووده ووفائه لصاحبه، منقذ حياته.

ويبقى الحلم الأوكراني

ورغم مخلفات العهد السوفييتي وكل العقبات، يتشبث الشعب الأوكراني بالأمل في حياة أفضل. وها هو يمضي شيئا فشيئا في درب الإصلاح والحرية والانفتاح والرقي العلمي. الرواية تشير إلى بعض الإنجازات على منوال محطة فيرنادسكي، قاعدة الأبحاث التي أسسها البريطانيون في عام 1947 في جزيرة غاليندز بالقطب الجنوبي، وسلمتها بريطانيا لأكرانيا في فبراير/شباط 1996، وما تلا ذلك من حملة تبرعات دعما للعلماء الأوكرانيين في هذه البقعة النائية القاسية. وها هي البلدان التي كانت تقفل أبوابها في وجه مواطني أوكرانيا، تغيّر سياساتها، وتشرع في استقبال مواطنيها على منوال إيطاليا، التي قررت تسهيل إجراءات الدخول للأوكرانيين مثلما جاء في الرواية، «سألت نينا فيكتور باهتمام مفاجئ: لماذا كنت تسأل سونيا عن إيطاليا؟ فردّ: لقد ألغوا الشرط المتمثل في طلب التأشيرة. فسألته حالمة: هل يمكننا الذهاب إليها يوما ما؟».

واليوم بعد مرور أكثر من ثلاثين سنة على استقلال أوكرانيا، ها هي الأشباح السوفييتية المتربصة بها، تعود لتطاردها مجددا، يجسدها الغزو الروسي 2022. لكنّ الروس لن يستطيعوا كسر إرادة الشعب الأوكراني مثلما لم يستطع كسرَها قبلهم أجدادُهم السوفييت.

كاتب جزائري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي