رواية «الوشم» لمنهل السراج.. من حكايات الألم السوري

2022-03-31

عن دار موزاييك للدراسات والنشر في اسطنبول تصدر قريبا رواية الوشم للروائية السورية منهل السراج. بطلة الرواية المعتقلة السابقة «لولا الآغا» تسرد خلالها يومياتها والظروف التي عاشتها في معتقلات النظام السوري.

هنا مقطع من الرواية.

علمت أن المرأة جمعت أجور المحامي من رجال معتقلين في عدرا. هؤلاء الذين لم يحصلوا مني إلا على التحسرات، فعلوا وتبرعوا لإنقاذي.

أنام وأستيقظ مع الخوف وألم الأسنان. تورم خدي من شدة الالتهاب، يرونني أمشي ليلاً مؤرقة من الألم واضعة يدي على وجهي، وأفكر بمعنى حكم الإعدام..

حتى قالت إحدى النساء بعصبية:

ـ لماذا تصبرين؟ اطلبي طبابة الأسنان!

فعلت.. تجرأت وكتبت اسمي بين طالبات الطبابة حين عرفت أن طبيب الأسنان معتقل ويعمل في الوقت نفسه في سجن في عدرا. هؤلاء الرجال كانوا رجالنا وسندنا. لن يعنفني لن يستهزأ بي.

قال لي وهو ينظر إلى أثر القيود في معصمي:

ـ يجب أن تشتري هذا المضاد الحيوي، يوجد التهاب شديد في السن.

أخذت الوصفة ورجعت إلى الشرطي أمد يدي ليرجع القيود إلى معصمي. كيف لا أستسلم للقيود أنا المحكومة بالإعدام. لم يفعل، قال:

ـ ارتاحي!

أرتاح؟ هل اقترب موعد إعدامي؟

وضعتُ يدي إلى جانبي وانهمرت دموعي، غصة توقفت في حلقي. لا بد أنه قال هذا لأنني محكومة بالإعدام.

جلستُ بين مريضات الأسنان ننتظر نقلنا عودة إلى سجن النساء، كلهن بقيودهن إلا أنا، كان عليّ أن أرتاح.

أولادي! لو أنني أراهم أو أسمع صوتهم، وكلما كانت هذه التمنيات تقتحمني تنهمر دموعي مثل دموع امرأة خرفة لا تدرك ولا تصدق واقعها. اتجهتُ إلى العسكري وأعطيته الوصفة ومبلغاً ورقياً «مجعلكاً» ليشتري لي الدواء.

عاد بعد ساعات بلا الدواء يسألني:

ـ أنت منيحة؟

لم يكن لأحد ولا أنا نفسي أن يميز بين دموع الوجع ودموع القلق. حتى لم أعد أهتم أن أخفي بكائي.

ـ هل أحضرت لي الدواء؟ سألته غير عابئة بمصيري، كنت أحتاج أن أتخلص من ألم ضرسي.

ـ سأحضره لك، ارتاحي!

نمت ليلتها أقاوم الوجع وأفكر بالحكم وأؤجل الألم والقلق. وأفكر بأولادي ومصيرهم أيتام الأم والأب.

ـ لولا الآغا! ناداني صباح اليوم التالي

اتجهتُ إليه بعينين ملتهبتين أرقاً وأنا أضع يدي على خدي.

ناولني الدواء وقال مكشراً عن ضحكة:

ـ أتى إخلاء سبيلك. هاتي بشارتي!

كدت أن أصرخ أن يكفوا عن تعذيبي وتضاحكهم. إعدام أم إخلاء سبيل؟

لم أفعل أخذت الدواء صامتة ومشيت تلحق بي النساء ويحطن بي يقبلنني ويباركن لي ويتضاحكن.

ـ لولا! إخلاء سبيل. كانت تردد كل منهن في أذني وآذان الأخريات

ـ هل تصدقنه؟ قلت بخشونة لم يعهدنها مني.

كنت أود من القلب أن أصدقه وأصدقهن، لم أصدق لكني على كل الأحوال تخلصت من خوف الإعدام.

اقتربت مني إحدى النساء وقالت جادة:

ـ لولا! أتى إخلاء سبيلك، ما بك؟ افهمي وافرحي!

وقفت حائرة في أي اتجاه أذهب. ثم مشيت مثل من يمشي في نومه ووجدت نفسي أدوس في أطباق الطعام الموجودة على الأرض.. وأكمل سيري بلا اعتذار للنساء الجالسات لتناول طعامهن.

انزويت أضع ذقني بين ركبتي وأنظر أمامي كأنني كنت وحدي بين جدران فروع المعتقلات.

هل حقاً سأغادر هذه الجدران؟

هل حقاً سألتقي أولادي؟

كيف أخرج إلى الناس؟ أخرج منتهكة وأرملة؟

استلقيت وتكورت على جسدي أنظر في الجدار.. كنت صغيرة حين ضربت في المدارس ظلماً، وصغيرة حين عيرت باسمي، وكنت صغيرة أتوق لأعتني بهرة حين منعت، الهرر تجلب المرض والموت وأختك تخافها. لم أتجاوز الخامسة عشرة حين حذروني، إن لم تتزوجي الآن تبورين وأطعت وقابلت الخاطبين. مع أني لم أكن أخشى العنوسة.

ولدت أول طفل وأنا في السادسة عشرة من عمري وصرت أماً لأربعة أولاد وأنا في السادسة والعشرين. أم لرضيعة حين سحبوها من حضني ورموني في فروع التعذيب. ماذا أقص على أولادي؟ عن عمهم أخ أبيهم يخون أباهم ويرميه وأمهم في السجون.

أحكي لهم عن موت أبيهم وهو ممزق من سياط الجلادين وبساطيرهم شاهداً على العار؟ أم عن ألمي مغتصبة وعار العالم؟ عن معنى أن يمرض الإنسان في السجون؟ عن ألم الأضراس في السجون؟ عن الفقر وعمل السخرة؟ عن انتخاب الطاغية في سجون الطاغية؟ أحكي لهم عن قضاة البهتان والظلم والفساد؟ عن حكم الإعدام؟ بم أخرج إليهم؟ بمسابح الخرز والصبر والقهر وحرمان اللقمة والستر والدواء وكثير من ذاكرة المهانات. كيف أستطيع أن أسامح عن كل هذا؟ وكيف لا أسامح؟ أكاد لا أقوى على الحالين.. العالم أشد وأعتم من أن أقوى على مواجهته ومحاكمته وتجاوز ألمي.

ـ لولا! التفتي إلينا، لم أنت متألمة وقد أتى إخلاء سبيلك؟ هل تبكين؟

أتاني صوت امرأة تتساءل عن فرح الحرية.

أردت أن ألتفت إليها وأسأل عن التحرر والظهر ينوء بكل هذه الذاكرة.

ـ لا أبكي. قلت

ـ ابكِ إن هذا يريح. ووضعت راحة يدها على كتفي.

لو انشق الجدار وأطلقني حين كنت أبيت مع الجرذ مغتصبة ومنتهكة، لو انشق السقف وأنزل عليّ ملاكاً يلهمني ويشد من أزري أو شرعت الأبواب وتراكض أولادي إلى حضني وصدري وذراعي.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي