إخراج إسكندر رياشي حيّا من تاريخ لبنان

2022-03-27

حسن داوود

تلك الصفحات التي يحتويها الكتيّب الصغير* كافية لحمل سيرة مكتملة لحياة إسكندر رياشي، أو إنها صفحات رواية اكتملت هي الأخرى، إذ لم نجد أنفسنا بعد انتهائنا من قراءتها، أننا قرأنا المقدّمة دون الكتاب.

إسكندر رياشي، في صفحات لقمان سليم، كان بطلا كاملا، مع أن حياته ذهبت في اتجاهات كثيرة متخالفة. أما زمنه، وكذلك بلده في ذلك الزمن، فلم يكونا قائمين على ركائز ثابتة. ذاك أنه نشأ وعاش في وقت ما كان لبنان ينتظر قرارَ الحاكم العسكري الفرنسي على أيّ وجه سيكون. وفي أثناء ذلك، ورغبة من رياشي في التحسّب لكل احتمال، حضّر نفسه ليكون كل شيء، أي أن يكون سياسيا وصحافيا ونجما اجتماعيا وكاتبا، وعاشقا إلى حدّ الرغبة في إنهاء حياته يأسا من عدم قدرته على الظفر بمعشوقته، ولاهوتيا بعد ذلك، ثم ناهيا نفسه عن هذا الاحتمال بالتوجه نحو الاطلاع على ملل الناس ونحَلِهم. هو كل هذا، ومع ذلك ظلّ راغبا في الزيادة، كأن يكون «الكسّاب بالحلال والحرام، مع إيثار الثاني على الأول، المبذّر على متاع الدنيا، المتلاف المسرف إلى آخره»، حسب ما كتب لقمان سليم.

وهناك إضافات تُزاد على ما عرفه وعاشه رياشي منها، إنجازه لكتاب سيرته، باللغة الفرنسية، عنونه بـ»نعيش مع الآلهة» وقد أهداه، وهذه واحدة من مهاراته، إلى رئيس الجمهورية كميل شمعون وزوجته زلفا. وبما أن الشيء بالشيء يذكر، لا بأس من الإشارة إلى أن ناشر الكتاب المزعوم، دار نشر تدعى Edition Julia Felix . ويورد لقمان ثلاثة أسباب لتحفّظه بـ»أن الناشر ليس من أحد سوى رياشي نفسه»:

(أ) لا أثر لدار نشر بهذا الاسم في لبنان أو خارجه (ب) لا عنوان لدار النشر هذه، (ج) التسرّع رياشي الموصوف الذي يشي به خلوّ Edition من الـ S- علامة الجمع الحُكْمية في هذا المقام».

غير مرّة يعلّق لقمان سليم بعبارة «على ذمّته»، حيال ما يذكره رياشي عن نفسه، من ذلك مثلا قول هذا الأخير، إنه كان مراسلا لصحيفة «التان» الفرنسية، «وكانت كبرى الصحف الصادرة في باريس بلا منازع». من جهة أخرى أمكن لرياشي أن يقنع آخرين، بينهم يوسف إبراهيم يزبك، بأن ينقلوا أخبارا عنه هي من محض تأليفه. من ذلك مثلا قصة زواجه من ماري قهوجي، التي تبدو أقرب إلى مشهد مأخوذ من مسرحية غرامية ذات طابع شعبي: «مَن هذه الفتاة الفتّانة» سأل رياشي الشاب حوذيّه فيما كان عابرا به سوق زحله ورأى فتاة خرجت إلى الشرفة. «هذه مدموزيل ماري… ملاك طاهر مع جمال وتهذيب» أجابه الحوذيّ. وهنا يكمل يوسف إبراهيم يزبك قائلا، إن رياشي طلب من الرجل أن يوقف العربة ليصعد هو إلى ذلك البيت ويقول لساكنيه: «داعيكم إسكندر رياشي، سكرتير المستشار (الفرنسي). ما معي قرش… نوري أندبوري، ولكنّي كريم وطيّب القلب. أعجبتني ابنتكم الحلوة فهل تعطونني إيّاها؟».

كان آنذاك سكرتير المستشار بالفعل، لكنه في المقابل كان مهتما، بل عاملا على نشر الأفكار الاشتراكية المؤيدة للعمال ضد مشغّليهم أو مستغلّيهم. يقول رياشي في تقديمه للعدد الأول من «الصحافي التائه»: «هذه الجريدة تعترف بالتآخي بين الطبقات، لكنها «تحترم الفقير التعس أكثر من الغنيّ السعيد». هو هنا وهناك في الوقت نفسه، محتملا أن يعمل في صالح الشيء وفي صالح نقيضه، في مسائل لا يشفع له ظرفُه في تناقضها.

في الغالب لم يُخفِ إسكندر رياشي أمرا مما كان يمكن أن يذيعه النمّامون عليه. كان يسبقهم إلى ذلك كاشفا بنفسه عما يرون أنها عوراته، وهم عالمون بتلك العورات وقابلون بها. في الصورة المنشورة في إحدى صفحات الكتّيب نراه واحدا من وجوه لبنان وكباره، وذلك في يوم تكريم أحمد شوقي لدى زيارة الأخير لبنان. في المقدمة بدا شوقي جالسا إلى جانب رئيس الجمهورية شارل دبّاس. المدعوّون الآخرون، الستّة عشر رجلا، الذين تضمّهم الصورة أيضا، هم كبار الصحافة والسياسة والشعر آنذاك، في مطلع الثلاثينيات. إسكندر رياشي واحد منهم، واحد معهم، مشارك إياهم في تظهير الصور الأولى، عما ينبغي أن يكون عليه لبنان. وإذ لا نعلم عن الآخرين ما بتنا نعلمه عن رياشي بعد قراءة موجز سيرته ذاك (مقدّمة لقمان سليم) نرى أنه الأقرب من بينهم إلى تأسيس ما يتعدى ذلك الاحتفال بأمير الشعراء، إلى رسم ملامح لأدوار الناجحين من بيننا في حياتنا المستقبلية، بما في ذلك دخائلنا وطبائعنا وقِيمنا وشطاراتنا، وما نقبل به من عاداتنا، رغم معرفتنا بأنه خاطئ ومُدان. ما تدفعنا مقدّمة لقمان سليم إلى التساؤل حوله هو: هل كنّا كذلك من قبل، أي قبل أن تُجمع أشتاتُنا وتقوم صيغة كياننا اللبناني، أم أن إسكندر رياشي استجمع في نفسه خصالا رأى أننا نحتاجها في مسيرتنا اللاحقة؟ أم «هل كان يسلّي ويتسلّى، ويجرّب بنفسه وبسواه، غير مكترث لما يقود إليه ذلك التجريب» حسب تعليق حازم صاغية على صفحات لقمان، المنشور في الكتيّب. هل كان ذلك ساعيا إلى أن الرجل يرشدنا ويهدينا؟

لقمان سليم حرص على أن تُلازم مراحل حياة رياشي تعيين تاريخ حصول كلّ منها. بذلك كان يساوق عيش الرجل مع التحولات السياسية الحاصلة في لبنان، كأنه بذلك يُقرِئنا السيرتين متزامتين ومترافقتين معا.

قبيل اغتياله كتب لقمان سليم قراءته النفاذة لسيرة إسكندر رياشي، بادئا بها فنّا غير شائع عندنا. نشرت دار الجديد القراءة في كتيّب بعنوان «الباطل يحرّركم» صدر بعد رحيل لقمان ووزّعته الدار في ذكراه الأولى. كما نشرت بعد ذلك كتاب «نسوان من لبنان» للرياشي استكمالا للتعريف به وبأدبه وزمنه.

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي