
موسى إبراهيم أبو رياش
تعد رواية «مأساة كاتب القصة القصيرة» لوحة سردية ساخرة، هذه السخرية التي تنز ألما وحزنا، ولم توفر الرواية الأدباء؛ فقد كان لهم حظ وافر من السخرية والتهكم، الذي يمكن اعتباره نوعا من النقد والنقد الذاتي ومحاكمة بعض السلوكيات المسيئة في مجتمع الأدباء، وأرى أن هذه السخرية خطوة شجاعة، فليس من السهل التعرض لعش الدبابير، الذين يظن بعضهم أنهم مقدسون أو معصومون أو من طبقة مميزة، ويتوهمون أن كتاباتهم مؤثرة، وأنهم مبدعون لا يشق لهم غبار. والرواية في مجملها تتناول طرفا من حياة كاتب قصة قصيرة في ظل حجر كورونا، وما رافقه من إجراءات وتقييد، فكاتب القصة كان ساخرا ومسخورا منه في الوقت نفسه.
تبدأ السخرية من بنية الرواية؛ فمع أن «مأساة كاتب القصة القصيرة» رواية، إلا أن فصولها عنونت على أنها قصص منفصلة «قصة أولى، قصة محذوفة، قصة ثانية، قصة ثالثة، قصة رابعة» وهي بهذا تشير إلى الروايات المفككة المكونة من مجموعة من القصص أو الحكايات أو الحوادث غير المترابطة، وتصنف على أنها رواية، فالرواية لها مقوماتها وشروطها، ولن تكون رواية ما لم تحققها.
النقاد والشلل الأدبية
تُعرِّض الرواية بالنقاد واختلافهم الواضح حول العمل الواحد، وتطرف بعضهم في الإعجاب أو الذم، والكتابة حول العمل بما يفوقه طولا، حتى أن الكاتب يشك في ما يكتب، ولا يجد في نصه ما يبرر ما ذهب إليه الناقد، سلبا أو إيجابا، فالقارئة أرسلت له عبر الماسنجر أربع رسائل عن قصة «المربع» وكل رسالة تحمل جديدا ورؤية مختلفة، وزادت رسالتها المدحية الثالثة طولا عن القصة نفسها، أما الرسالة الرابعة فجاءت دراسة في مئة وأربع وأربعين صفحة، تقول ما لا يقصده الكاتب، ولم يخطر على باله، وفي المقابل فإن إحدى المعجبات المتابعات للكاتب صارحته بوضوح، أن قصة «المربع» لم تعجبها. وتلفت الرواية إلى حقيقة مؤسفة أن معظم الأعمال المنشورة لا تجد أي متابعة نقدية، وسرعان ما تنسى، وأقول: إن العمل الإبداعي يموت إن لم يتناوله النقاد بالدراسة والمراجعة والتحليل.
ويسخر الراوي من إحدى الشلل الأدبية التي كان يعاني منها، وذكرته بفيلم «الطيب والشرير والقبيح»؛ لأن الشلة كانت مكونة من ستة أدباء، وأحدهم طيب أقرب للهبل مع أنه موهوب. هذه الشلة تزعم أنها الحداثة ذاتها، وأنهم «من كتاب المستقبل، ويترفعون عن الحاضر، باعتباره نفيا للإبداع». وكان سادسهم ناقدا يقوم بدور (بَدي غارد) للشلة. والمتابع للحركة الأدبية يدرك وجود بعض النقاد يقومون بدور الهجوم أو الدفاع لصالح فئة معينة، وينحاز إليها متجاهلا الشروط الإبداعية والمناهج النقدية.
ويسوق الراوي رأيا فوقيا متعجرفا صرح به أحد أعضاء «عصابة الحداثة» في مقابلة إذاعية: «إنه يفضل إخضاع مخطوطاته لحظر تجوال دائم في خزنة مصفحة (ولا أقول قاصّة مصفحة، احتراما لكاتبات القصة وكتابها) إنه مستعد لحشر هذه المخطوطات مع عثٍّ مُجوَّعٍ في الخزنة، على أن ينشرها لجمهور لم يتعلم بعد كيف يختار الكتب التي يشتريها».
الروائيون
تقصف الرواية بعض الروائيين بصاروخ بعيد المدى: «لم أكن أذهب إلى النشاطات التي يقيمها روائيون! فأغلبهم، ولا أحب أن أعمم هنا، متنمرون، يتعاملون مع كتاب القصة القصيرة، كأنهم عمال مياومات، وهم أصحاب المشاريع الكبرى، كبار الأغنياء! أما كثير من أولئك الذين حالفهم الحظ، ونجحت روايتهم الأولى أو الثانية، فإنهم يتصرفون بكل همجية الأغنياء الجدد!» بل إن الراوي، يضيف في مكان آخر في المؤتمر الخارجي الوحيد الذي دعي إليه: «إنني لن أقبل بتحويل نفسي إلى سلعة بالإقدام على كتابة الرواية، التي باتت فريسة سهلة للكثيرين». ومع أن هذا التعريض بالغ القسوة، إلا أنه واقعي إلى حد كبير في حق عدد من الروائيين، الذين يرون أنفسهم آلهة الإبداع، ومستواهم أكبر من أن يتنازلوا لكتابة القصة القصيرة، بل إن معظمهم يأنف أن يقرأ قصة، أو يضع إعجابا لغيره، ناهيك من تعليق أو رد. وأصبحت الرواية مستباحة من قبل من هبَّ ودبَّ، دون خبرة أو موهبة أو إمكانيات.
تعرضت الرواية لفذلكة بعض الأدباء وتجاوزاتهم اللغوية التي يظنونها مجازات أو انزياحات، ولا يأبهون لمن ينتقدهم لتجاوزهم منطوق اللغة وإيحاءاتها، بحجة أن القارئ يفهم عليهم، وأن ما يقصدونه واضح، ولا عبرة في صحة المجاز أو خطله، وفي الحقيقة هم يبحثون عن الشهرة ولفت الانتباه بالمخالفة وارتكاب الإثم اللغوي. وهذه ملاحظة عند البعض الذين يخترعون ألفاظا وتعابير وصورا يظنونها فتحا إبداعيا، وما هي إلا ترهات وفضائح لغوية.
ومن باب السخرية من حقوق الإنسان التي تتلاعب بها الدول، حسب مصالحها، أضاف الراوي مجموعة من الحقوق الجديدة، ومن هذه الحقوق المتعلقة بالأدباء: «لكل قصة الحق في أن يكون لها معجب واحد بها على الأقل، فإن لم تجد، فكاتبها ملزم أن يُعجب بها».
النشر الإلكتروني
خلقت شبكة الإنترنت ومواقع التواصل مشكلة اجتماعية للأدباء متعلقة بالإعجاب، فالكاتب عندما ينشر أي مادة له إلكترونيا، يتوقع أن تنهمر عليه الإعجابات، لكن معظم ما ينشر لا يحظى إلا بعدد محدود من الإعجابات، فالمتابعون يبحثون عن المضحك المسلي لا الجدي المتعب، الذي يتطلب تركيزا وتفكيرا. وتشير الرواية إلى أن مسألة الإعجاب قد تؤدي إلى الطلاق بين الزوجين بسبب عدم إعجاب أحد الطرفين بما نشره الآخر، وفي مخرج تهكمي تقول الرواية إن «بعض الكتاب العقلاء لا يسمحون لأمر كهذا أن يترك أثره في محيط عائلاتهم، فيعجبون هم بما يكتبون، وهؤلاء، في ظني أحكم الكتاب وأرجحهم عقلا». والمتابع على مواقع التواصل يُدرك حساسية الأدباء تجاه الإعجابات وأنهم يعتبرونها من واجبات الصداقة الافتراضية المتبادلة، وبعضهم يتسولها تحت مظلات لا تخفى على أحد!
تسخر الرواية من الصور التي ينشرها البعض لأنفسهم وهو يضع القلم بين شفتيه؛ إيحاء بالتأمل والتفكير العميق، «وكأنهم يمهدون الزمان للشروع في كتابة أعظم قصة قصيرة في الدنيا» وتضيف أن هؤلاء نسوا أن الحواسيب هي التي تستخدم اليوم للكتابة وليست الأقلام!
حقوق الأدباء
ومن باب السخرية من حقوق الإنسان التي تتلاعب بها الدول، حسب مصالحها، أضاف الراوي مجموعة من الحقوق الجديدة، ومن هذه الحقوق المتعلقة بالأدباء: «لكل قصة الحق في أن يكون لها معجب واحد بها على الأقل، فإن لم تجد، فكاتبها ملزم أن يُعجب بها». «من حق الكُتّاب والمغنين والفلاسفة والسياسيين أن تصل أغانيهم وكلماتهم وأفكارهم إلى آذاننا، ونتأثر بها، سلبا أو إيجابا». «لكل كاتب قصة قصيرة الحق في أن يكون أنانيا إذا عثر على مُعجبة. فهذا أمر نادر! حتى أنني وبلا أي شكل من أشكال تأنيب الضمير أقول: يحقّ لكل كاتب قصة قصيرة أن لا يُفرِّط بأي مُعجبة، مهما كان السبب». «لكلّ كِتاب جيّد الحقّ أن يمحو نفسه بنفسه إذا قرأه إنسان مرتين دون أن يفهمه، وقرر قراءته مرة ثالثة وهو نعسان». «لي الحق الكامل في كل ما كتبت، ولك الحق الكامل في أن تحبه إن استطعت».
«للكاتب أن يحب مُعجباته، وللكاتبة أن تحب مُعجبيها على ألا يؤثر ذلك في جوهر النص». «حق لهذه الرواية أن تُغير عنوانها ليكون» مأساة كاتبة القصة القصيرة، دون أن يعني ذلك، بالضرورة، مساسا بالمساواة بين الجنسين».
كما سخرت الرواية من أمور كثيرة متعلقة بالأدب والأدباء مثل: الاسترسال، لعبة التقديم والتأخير، التقافز بلا منطق قصصي، فاعلية القراءة الليلية كمنوم، القراءة دون وعي، الحقيقة والخيال، مفهوم الواقعية، وجوه الكاتب وأقنعته، المعجبات، المفاجأة، وغيرها.
إن «مأساة كاتب القصة القصيرة» بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون، 2021، 198 صفحة، رواية ساخرة من كل شيء، وما أوردناه من سخريتها من الأدباء لا يعني الإساءة أو التقليل من شأنهم وأهميتهم، لكنها تسلط الضوء على سلوكيات وظواهر تسيء إلى الأدب والأدباء، ولا علاقة لها بالإبداع، وهي دعوة للتخلص منها، وتنظيف البيت الأدبي مما يعتريه من وهن وخلل.
كاتب أردني