أميرة بربطة عنق

2022-03-13

جو قارح

ربّما، بعد محاولة صعبة جدّاً ومتعمّدة في الكثير من الأحيان، توصّلت شركات الإنتاج الفنّية الموسيقيّة منها والمتّخصصة بعالم الأزياء والموضة، إلى وضع معايير ثابتة في الجوهر مغايرة في الشكل للمشاهير. في ظلّ سيطرة الأنوثة الفاحشة الاستثنائية على التعريف الأساسي للمشاهير الإناث أينما حللن، تبقى بعض الحالات الرّائعة شواذ على قاعدة شاذة. تلك هي "#باتي سميث".

ستينات القرن الماضي، أجمل العقود على مرّ التّاريخ. فيها المظاهرات الطّلابية العالمية، تطوّر الحركة الهيبية، ثورة الرّوك أند رول الموسيقية، إسقاط شارل ديغول، المظاهرات الأفريقية الأميركية حول العالم، حفل وودستوك الضّخم وأخيرًا وليس آخرًا، جيل البيت ."Beat Generation"

جيل البيت لا يحتاج لا لإضاءات تعريفيّة أو لتحديد، لكن من أجمل ما قدّمه لنا خلال تلك السّنوات فرقة من الشّعراء والكتّاب والمغنّين الموسيقيين، في ترحال دائم، وفي سباق دائم مع الوقت، حاملين على أكتافهم كل ما هبّ ودبّ من قضايا إنسانيّة محليّة إقليمية وعالمية، نذكر منهم: ألان غنسبورغ، بوب ديلان، جوان بياز وطبعاً باتي سميث.

بدأت باتي حياتها الفنيّة مع هذه الفرقة، تتنقل معهم من حانة إلى أخرى، من مهرجان أو حفل إلى آخر، تلقي قصائدها المتحرّرة، أحياناً مع مرافقة موسيقية ناعمة لا تلبث أن تتحوّل صخباً انصياعاً لشخصية باتي الحماسية. بقي الوضع على حاله إلى حين أصدرت باتي سنة 1975، ألبومها الأوّل والأشهر "Horses" أي الأحصنة، المؤلّف من ثمانية أغانٍ اشترك في كتابة أشهرها "غلوريا" المغني الكندي الشهير "فان موريسون". كتبت باتي سميث معظم أغانيه، هي التّي تأثرت بشدة بقصائد الشّاعر الفرنسيّ الشّاب رامبو، وصديقتها المغنية جوان بايز. لم تُخفِ أبداً هذه التّفاصيل لا بل أوضحتها بصراحة رائعة، لا تدركها إلّا فنانة حقيقيّة.

بدايةً مع غلاف الألبوم. إذ تظهر عليه باتي سميث بكامل أناقتها، لكن بمظهر غير معتاد على الفنّانات إطلاقاً، حتّى يومنا هذا، ببدلة رسمية رجاليّة: الكنزة ممسوكة موضوعة على كتفها الأيسر، القميص بزرّه الأوّل مفتوحاً وربطة عنق منسدلة من الجهتين غير معقودة. لم تكتفِ باتي بهذه القدر من التّحدي، بل أكملت عملها على جسدها: لم ترتّب شعرها، لم تضع أيّ نوع من التّبريج على وجهها، كانت على طبيعتها لأقصى حدّ. ما يجمّل الغلاف أكثر ويعطيه حيويّةً مطلوبة هو مصداقيته وشفافيته. إذ إن باتي لم تغيّر أيّ شيء للظهور برسمية فائقة، على الأقل الحدّ الأدنى منها، بل ساهمت في نقلة فكرية نوعية تتجسّد بمبدأ فرديّ جميل: كل الرّسميات، أحداث تافهة طبيعيّة لا تكبر أهميتها على تلك اليومية المملّة.

الفكرة الأساسية التّي يدعمها مَثَل الألبوم الأوّل لسميث يجب عليها التّجلي أكثر فأكثر خصوصًا في المجتمعات العربية. الخلاعية الفكرية بتحرّرها ضرورة. لا يمكن للفكر العربيّ إجمالاً التّقدم مركوناً في خانة واحدة، إنّما يرتبط نموّه بتوازن نسبيّ متغاير بين التّشدّد الفكريّ الصّرف (لا دينيّ أحياناً) والانفتاح الشّديد على التّحديدات الجديدة العصريّة للهوية الفكريّة. عندها لن تبقى الملابس غير محتشمة مهما بَرزت من أجسادها لأنّ التّركيز لن يكون عليها حينها. ما تمثّله باتي سميث من تحرّر إنساني يتخطّى بكثير إطارها الأنثويّ الضّيق، فهي جاهرت طويلًا بتأثّرها العميق بفكر جيم موريسون المتنوّر لكنّها لم تتوّقف عنده. (موريسون شاعر أميركيّ ومغنّي في فرقة "Doors" الشّهيرة وقد تميّزت قصائده وأغانيه بغرابة وصفيّة قصوى وملاحظات ذاتية منافية للواقع المعاش).

فيما يلي ترجمة لبعض المقاطع من كتابات باتي سميث، معظمها مأخوذ من كتابها الشّهير "بابل" الذي جمعت فيه قصائد، رسوماتٍ، صوراً فوتوغرافية ونصوصاً نثرية.

أليس غريباً

في "فاينلاند" نادٍ قديم،

فتاة بفستان أبيض،

صبيّ يُردي أشياءً بيضاء غريبة،

"الجميع مدعوّ للمشاركة!"،

يأتون،

ويقعون على الأرض،

ألا ترى أنك عندما تنظر إليّ،

أنني لن أنتهي؟

أنني أعبر؟

أليس غريباً؟

تعال معي،

أرجوك،

لوّثني،

استكشفني،

"الجميع مدعوّ للمشاركة!"،

يأتون،

ويزحفون على الأرض المتّسخة،

ألا ترى أنك عندما تنظر إليّ،

أنني لن أنتهي؟

أنني أعبر؟

أليس غريبًا؟

بالطّبع!

جناح

الشّاشة السّوداء، أضواء النّهر اللّامعة، صبيّ بزيّ أسود وَقَفَ على رأس التّلة، شعره متوهّج. يرفع يده ويحيّي الطّبيعة، وهذه الأخيرة، مضطربة ومزاجية كعادتها، تُقدِم على المستحيل: تفتح يدها أكثر فأكثر، صوت نافرٌ مزعج يجبر الصّبي على الإفلات والهروب. هاجمته أسنان قرش، طقم أسنان عائم على أضلع الأمواه. تلك الأشواك التي سرقتها الطّبيعة من حبيبها القديم، قرشٌ باسكيّ ضخم.

نار مجهولة المصدر

أنت منزعج،

ربما عليّ التّوقف عن كوني أنت،

نار مجهولة المصدر،

أخذت رضيعي منّي واختفت،

مسحته بالطّول والعرض على موجات صوتي،

ابتلعته كالمحيط،

في نار رماديّة سميكة.

يأتي الموت،

ماسحاً الرّدهات،

كسيّدات بأثواب طويلةٍ،

يأتي الموت على حصانه،

عاديّاً على الطّريق السّريع،

بحلّته الأنيقة.

يأتي الموت خلف مقوده،

يأتي الموت زاحفًا،

يأتي،

لا يمكنني فعل شيء،

يرحل الموت،

ثمّة شيء ما بالتّأكيد،

لقد جنّ جنوني،

فتلك النّار أخذت منّي رضيعي،

وتركت لي كل شيء،

وتركت لي كل أغراضه.

مخرّب (دموع الفرح)

لقد فعلها! لقد أسر العاصفة في علبة زجاجية. دموع فرح انسابت من عينيه على العلبة، بعضها عَبَر معصميه ليصل إلى أصفاده. كانت الدّموع ترمي الزّجاج بعصيان من ظلّ، وكل ما حوله هدوء، صمت، وسيارة رباعية الدّفع خالية. عين مارٍّ مغلقة مشكّكة، رعبُ فتاة صغيرة بمعطفها الأصفر، قلق الطّرقات المتعطشة، عظام العمّال المجنونة، حركات المزارعين المعذّبة، النّساء يرتّبن شعورهنّ أمام المرآة، أما الموت والدّمار فيتكاثران بسرعة. ضحكته تنعكس من العلبة الزّجاجية التّي يخبّئ فيه عاصفته بعد ملاحقةٍ طويلة مريرة. تنعكس.

خلاص الرّوك

[...] يدفعون لي كي أتكلمّ، فأتكلّم، وإلّا أَفرَغ بسرعة: أخَلُقُ حبّاً بالرّغبة، بالشّهوة، الأشباح المحاصرة لرؤياي تتحرك شيئاً فشيئاً. تملأ جمجماتنا بغبار المنازل القديمة، باللّبنات والكرات الزّجاجية. العبقريّ نائم في مغارة رخامية. هناك، على الصّخرة! يتمدّد بلا أجفان مع دخان ثقيل سميك يخرج من فمّ أفعى هاربة من مجارير أمجاد سابقة.

[...]  شكل الرّيشة جوهرُ التّحليق. الهنود، المحلّقون الحقيقيون، أخذوا هذا الرّيشة وغيرها الكثير ووضعوها حول رؤوسهم راسمين قبعةً من طائرة.

بابل

[…]  كان رسّاماً أجوفاً ومريضاً أنهى للتّو لوحته. اشتهى مشاهد جديدة، أوهاماً متجدّدةً، وقد أتى الآن ليرتبط بالمهندس الأعظم، ذاك الذي طرد أساسات بابل كلّها، ذاك الذّي مرّر الاسم عبر لسان وأحشاء امرأةٍ أجبرت الله على رشّ أوامره يميناً ويساراً، انتقاماً من حوّاء.

[…]  في أرشيف السينما الممنوعة، توجد آلية يمكنها مزج الذّاكرة بالضّوء لإعطاء صوت مصوّر لأيّ حيّ في نعمة الفيلم. توجد واحدةُ أخرى: تحرّكات صورة الكاميرا هي السّكين المتعطّشة للجماعات، مملكة الأشرطة السينمائية هي الأرض المشتركة الوحيدة بين العاهرات والعلماء. توجد آلية أخرى لم تتقن بعد، مبرمجة لتعيد لنا كل الحركات التّقليديّة قبل النّسخة الأصلية. أعد ظهرك للخلف، اضغط تاجك وكفيّك على كريمة الجدران الحديديّة لغوّاصة نووية. يبقى في الذّهن إطار مجمّد لسفينة، وعلى سفرها علامة، نقص داخل الدّلائل كلّها.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي