
حسن داوود
حياة ماجدة سيمونيان المرأة الأرمينية المصرية، مشدودة بخيوط كثيرة إلى ماضي عائلتها وقومها. الزمن الأكثر ثقلا في ذلك الماضي هو 1911، سنة قرّر الباشوات الأتراك الثلاثة شنّ حرب الإبادة على أرمن تركيا. إنها المحطّة الأساس التي يبدأ منها ذلك الماضي، والتي رجوعا منها يستعاد الماضي الأسبق، الذي يعود إلى مئات السنوات، بل إلى آلافها. ذلك الصرح المقام تخليدا لشهداء تلك المجزرة في أرمينيا، ربما كان الأثر الحاضر الأقوى في التاريخ الأرميني، متساميا على كل ما سبقه. لكنه رغم ذلك مُشعِل لرغبة السيدة ماجدة، كما لرغبة بني قومها جميعهم، في معرفة الماضي من أجل جمع أطرافه ولمّها بعضها إلى بعض.
للأجيال التي أعقبت 1911 لن تكون الحياة إلا صدى لما كان قد حدث. مهما حصل في حياة السيدة ماجدة، من زواج وإنجاب وهجران ثم إعادة وصل بزوجها، إلخ، لن يصل أبدا إلى تلك الذروة التي سطّرها ذلك التاريخ. إن هي إلا مراحل من عيش ضروري توزّع بين ممارسة الحياة والعمل على معرفة الماضي القومي وجمع أطرافه. من ذلك مثلا أن تبحث ماجدة سيمونيان عن الأوّلين من الأرمن المصريين، راجعة بذلك إلى سنة 1085 مثلا حين أسّس بدر الدين الجمالي الأرمني، في عهد الخليفة المستنصر بالله، الأثر الباقي إلى الآن، وهو «مشهد الجيوش» القائم على حافة جبل المقطم.. كما أن ترجع إلى الأثر الذي تركه أرميني آخر كان من مسلمي مصر. أما التوثيق الأهمّ فهو في الأوراق التي تركها آرام سيمونيان، الجدّ الأول من زمن المجزرة، والتي تصف ما جرى للعائلة في 1911 والسنوات القليلة التي تلتها.
تعرف ماجدة في أي بلاد توزّعت عائلات سيمونيان وهي على صلة ببعضهم إلى الآن، وها هي مع ذلك تعيش كمصرية في أحد أحياء القاهرة. زوجها، «أرمن» تمكن إثر هجره لها من ضمّ ولديهما إليه، والعيش معهما في بلد هجرته. هي لوحدها إذن، في البناية التي تحوّل العيش فيها، بوجود تلك العائلة الفاسدة في طابقها الأرضي، إلى نكد وتهديد يوميين. لم تطق ماجدة صبرا على تمدّد تلك العائلة، بالإساءة لها وبتحويل مشهد الحيّ كلّه، فالتجأت إلى مركز الشرطة، الذي لم يكن ليفعل لها شيئا لولا عبد الرحمن الصحافي الذي صادف وجوده هناك. عبد الرحمن هذا سيتحوّل إلى صديق لماجدة، وإلى مشارك في رواية ما سيتلو من حياتها، وشريك أيضا في ما يشكّل وعيها لأرمينيتها. هما الاثنان، راحا يتداولان القصّ في الرواية. مرّة واحدة شاركهما أرمن زوجها العائد، أو التائب، حيث يروي بلسانه، وفي ثماني صفحات، وقائع من سيرة حياته بنفسه.
«موت منظّم» مزيج ناجح من نصف رواية وثائقية ونصف رواية درامية. استقصاءات كثيرة أجريت، لا بدّ، بما يختص بذاك النصف الأوّل، حيث أن كل واقعة حدثت وكل مكان سُمّي جرى التعريف به اعتمادا على تفاصيل وتواريخ مستفيضة.
يكاد عبد الرحمن يشارك ماجدة أرمينيتها، بما يتعدّى الاهتمام الصحافي، نراه يقصد أرمينيا في الاحتفال الذي يقام بالذكرى المئوية لحدوث المجزرة. فها هو يبدي حماسة لكل ما تقع عيناه عليه، هناك في أرمينيا، مرسلا تحقيقات متواصلة إلى الصحيفة القاهرية التي يراسلها، ومساعدا في الوقت نفسه على كشف معالم ذلك التاريخ والتعريف به. في أحيان يتراءى لنا، من النصّ، أن ذلك الاهتمام يرجع إلى ما قد يولّده التعلّق الغرامي بامرأة تأتي حاملة تاريخها المأساوي كلّه، لكن ذلك لم يكن الداعي إلى ذلك الاهتمام. ربما كانت هي، غير عابئة بالفارق الكبير بين عمريهما، حيث إنها في السابعة والخمسين، فيما هو ما يزال في مطلع ثلاثينياته، قد شعرت بشيء من ذلك، خصوصا حين صادفته جالسا مع امرأة أخرى. لكنها سرعان ما طوت صفحة الغيرة تلك، محيّدة نفسها، كما قرّاء الرواية المحتملين، عن انتظار شيء غرامي توصل إليه تلك العلاقة.
«موت منظّم» مزيج ناجح من نصف رواية وثائقية ونصف رواية درامية. استقصاءات كثيرة أجريت، لا بدّ، بما يختص بذاك النصف الأوّل، حيث أن كل واقعة حدثت وكل مكان سُمّي جرى التعريف به اعتمادا على تفاصيل وتواريخ مستفيضة. وفي الجانب الثاني عزّزت المواقف واللمسات الإنسانية من جعل الروايةِ عملا دراميا. تلك القسمة أبقت العمل تحت سيطرة كاتبه، سائرا في خطّ انفعالي غير متوتّر، شأن ما تتسم به الروايات ذات الطابع التاريخي. لا صعود ولا هبوط في السرد، إلى حدّ أن موت ماجدة سيمونيان، الذي كان ينبغي أن يكون صاعقا، حيث أنها قتلت في انفجار الكنيسة البطرسية في العباسية، أمكن إبقاؤه في خطّها الدرامي الهادىء المتّصل. ذلك يعود على الأغلب إلى ميل التوثيق ذاته الذي أبى إلا أن يُعرّف بالكنيسة وتاريخ إنشائها ومَن هم روادها وما علاقة الأرمن بها. ثم إن هناك تعريفات أخرى تلت، مغرقة في سياسيّتها هذه المرة. سنقرأ في صفحات الكتاب الأخيرة عن مرتكبي الانفجار، مَن هم ومن أعدّهم وأي طريق سلكوها قبل وصولهم إلى الكنيسة البطرسية. هنا، في صفحات الخاتمة تلك، تبدو الرواية كأنها أزيحت من القاعدة التي ارتكز بناؤها فوقها، قبل أن يبلغ الحزن على وفاة ماجدة سيمونيان المدى الذي يستحقّه.
رواية أحمد مجدي همام «موت منظم» صدرت عن دار نوفل في 189 صفحة سنة 2012.
كاتب لبناني