
شكيب كاظم
قرأت المقال القيم الذي كتبه الأستاذ إبراهيم محمود، في العدد الأسبوعي لجريدة«القدس العربي»الصادر يوم الأحد 19 رجب 1443هـ – 20 شباط/فبراير 2022، عنوانه «بين مقص الرقيب والرشوة السياسية – الثقافية. الكتاب في سطور الغلاف والتعريف» وبودي أن أذكر أني أقرأ للأستاذ إبراهيم محمود، ولاسيما دراساته التي كان ينشرها في مجلة «صوت الآخر» التي كانت تصدر في مدينة أربيل العراقية؛ والمحتجبة عن الصدور الآن.
مقالات إبراهيم ودراساته، تذهب نحو الحافات البعيدة، القريبة من المحظور والمسكوت عنه، فهو لا يضع الحافر على الحافر- وهذا مصطلح نقدي – بل يضع قلمه على جراحاتنا آسياً ومداوياً، فاضحاً ومعرياً، لذا كانت دراسته عن كتابَي «المواقف والمخاطبات» للمتصوف محمد بن عبد الجبار النُفّري(354هـ) بل آخر ما بقي من آثار هذا المتصوف الذي حققه المستشرق البريطاني المعروف آرثر آربري؛ ذاكراً: «لنأخذ مثالاً آخر يخص كتاباً تراثياً يتمحور حول الإيروتيكا العربية الإسلامية، ونشرته دار عربية عرفت باستفزازيتها للكثير من دوائر الرقابة العربية قبل غيرها، حيث طبعت ونشرت عشرات العناوين المعتبرة، المرفوضة، التي لا تتناسب وهوى الرقيب السياسي العربي، وأعني بها دار شركة رياض الريس، أو (الريس) اختصاراً، والكتاب المشار إليه هو «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتجاني (تحقيق: جليل العطية) منشورات الريس، ليماسول، قبرص، ط 1992، الذي أبصر النور قبل ستة قرون، ورغم ذلك فإن محتواه يصدم (ذائقة) القيّم على الثقافة، وتقية المعرفة حتى الآن هنا وهناك».
كلمة الغلاف الخارجي وردت ضمن مستطيل، حال الكثير من منشورات الريس، حيث يرد اسم المؤلف ومن ثم كتابه يليه اسم المحقق، ومن ثم بطاقة تعريف به، كما في «هذا الكتاب وضعه مؤلفه محمد التجاني لأحد الأمراء الحفصيين في تونس، في أوائل القرن الثامن الهجري، وهو بمثابة موسوعة في المرأة العربية، تتضمن طائفة من الأخبار والنوادر، والأحاديث والأشعار، ومعلومات دينية وتاريخية ولغوية تخص المرأة جسداً وروحاً».
وقد شاء إبراهيم محمود الإشارة إلى كتب المعري، التي أفلتت من يد الرقباء والعسس، والوقوف عند كتاب «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتجاني.
قلت: لقد جاء على الصفحة الأولى من المخطوط، اسم عنوان الكتاب هكذا «تحفة العروس ونزهة النفوس» للإمام العلامة أبي عبد الله محمد التجاني المالكي شارح (الشفا) ويقصد محقق الكتاب هنا، أن للتجاني كتاباً يشرح فيه كتاباً للقاضي عياض سماه (الوفا في شرح الشفا) تنظر ص 5 من طبعة بغداد.
قال خير الدين الزركلي في معجمه القيم (الأعلام) في ترجمته للتجاني ما نصه: «له تحفة العروس ونزهة النفوس». إذن صحة عنوان الكتاب «تحفة العروس ونزهة النفوس» وليست (متعة النفوس) هذا أولاً. وثانياً يذكر إبراهيم محمود، إن الكتاب هذا صدرت طبعته الأولى سنة 1992، بتحقيق جليل العطية، والصحيح أن هذا الكتاب نشر عندنا في العراق، ونشرته دار التربية للطباعة والنشر والتوزيع في شارع المتنبي في رصافة بغداد، وقد اقتنيتُ نسخة بداية صيف سنة 1990، استعاره صديق لي ولم يعده! فاقتنيت نسخة ثانية منه يوم السبت 28 رمضان المبارك 1411هـ الموافق 13 نيسان/ إبريل 1991، ومن عادتي أن أؤرخ شرائي الكتاب، فضلاً عن قراءته؛ إذ قرأته في الضاحية العمالية في حمص السورية الرائعة، يوم الجمعة 22 رجب 1429 هـ/ 25 تموز/ يوليو 2008 لدى انتقالي للعيش في سوريا تلك السنوات. صدرت طبعة بغداد من غير رقم الطبعة، فضلاً عن عدم ذكر تاريخ نشرها، لكن ترد إشارة على الصفحة السابعة، لدى الحديث عن النسخة المطبوعة ما نصه: «طبع هذا الكتاب منذ أكثر من (107) سنة (هكذا وردت نصا وصحتها سنوات، سنين) وهذه الطبعة تقع في (204) صفحة!! وليس بها هامش تحقيقي (..) وكان ذلك بالمطبعة العامرة يوم الأربعاء الثامن عشر من شهر رجب (..) عام ألف وثلاثمئة وواحد من هجرة سيد العرب والعجم….».
ما يعني أن طبعة بغداد صدرت عام 1408 هـ الموافقة لسنتي 1988 – 1989وحققها المكنى (أبو هاجر) من غير اسم وفي الكتاب فصول في ذكر الخدود والأعناق والخصور والنحور والصدور!
وثالثاً ذكر الباحث إبراهيم محمود أن الكتاب أبصر النور قبل ستة قرون، والدقة البحثية تقتضينا القول، إنه أبصر النور منذ سبعة قرون، لأن مؤلفه أبا عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي القاسم التجاني؛ توفي عام 710 للهجرة. وإذ يذكر في طبعة دار الريس إن هذا الكتاب وضعه مؤلفه، محمد التجاني، لأحد الأمراء الحفصيين في تونس في أوائل القرن الثامن الهجري، فإن الناقد إبراهيم محمود يحمّل هذه العبارة أكثر مما تحتمل وتطيق، مع غمز قناة العرب قائلا: «ثمة إبلاغ عن الكتاب في موضوعه وأهميته وخروجه عن المنضبط عربياً، وهو أنه مطبوع في الخارج، وهذا يشير في الحال، إلى أن موضوعه ترفضه الرقابة العربية، وفي الوقت الذي ينتمي فيه إلى جغرافية دار الإسلام، لكنه متنحى جانبا، وما في هذا الرفض من تعزيز سلطوي، ديني موجه».
قلت آنفاً إن الكتاب- حسب علمي- قد طُبع مرتين؛ الأولى في مصر، والثانية طبعة بغداد بعد مئة وسبعة أعوام؛ أي عام 1408هـ الموافق لسنتي 1988- 1989. ويظل الناقد، يواصل تفسيره لهذه المقولة ذاهباً بها مذاهب شتى ليست فيها ومنها ليقول: «والغريب في الأمر، كما هو مشار إليه إنه مكتوب لأمير عربي- إسلامي وذلك يفصح عن موقع سلطوي في أصل الكتاب، ومفارقة هذه العلاقة التي تصل الكتاب بالقارئ، ومن يكون المعني المباشر به، أتراه صادما للرقيب العربي غير المعلن عنه باسمه، أي أبعد من كونه ذلك الموظف الذي يتلخص في عين مبرمجة، ويد مكونة من عدة أصابع تحسن تحريك المقص تجاه ما هو مطلوب، وما هو مرفوض (..) ليكون الإهداء ليس حباً فيهم، وإنما خشية، وليكون هذا الإهداء أشبه ما يكون برشوة سياسية – ثقافية، أي للإعلام بأن هذا الكتاب مجاز طالما يحمل اسم ولي أمر سلطوي؟
قلت: إن هذا الطقس الثقافي كان شائعاً؛ إهداء كتاب لأمير أو وزير رغبة في جائزة أو مال أو نَشَب، وفي الذاكرة كتاب «الصاحبي في فقه اللغة» للغوي الشهير أحمد بن فارس، الذي أهداه للصاحب بن عباد، وهذا ابن رشيق القيرواني يهدي كتابه «العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده» وقد صنفه كعادة أكثر العلماء لأبي الحسن علي بن أبي الرجال الكاتب، رئيس ديوان الإنشاء لابن باديس الصنهاجي؛ أحد الملوك المعروفين في المغرب الأقصى، وهذا أبو حيان التوحيدي، فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة يهدي كتابه «الإمتاع والمؤانسة» لأبي الوفا المهندس، ودوّن له فيه ما دار في مجلس ابن سعدان من أحاديث ونوادر ومفاكهة وأحماض، في حين امتنع أبو العلاء المعري كبير الشأن عن قبول كل عروض داعي الدعاة الفاطمي مما هو مذكور في المراسلات التي جرت بينهما!
إذن المسألة ليست مختصة بأمير محدد، وجعل الإهداء رشوة كي ينشر الكتاب؟ إنما لكل زمان شؤونه وشجونه وجاري عاداته وتصرفاته، وما قد يسلكه أحدّهم قد لا يقبله آخرون كما في مسألة المعري الكبير.
وأخيرا وليس آخر، فليس هذا الكتاب الممتع والمفيد «تحفة العروس ونزهة النفوس» للتجاني بِدَعا في بابه ولا غريبا في إهابه، بل ثمة كتب عدة في هذا الباب تدور في فلك المحظور، وكشف المستور ومنها: كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه» لأبي كمال باشا، ألفه بإشارة من السلطان سليم خان وهناك «رشف الزلال من السحر الحلال» للعلامة جلال الدين السيوطي؛ أحد الجلالين المفسرين للقرآن الكريم المعروف بـ(تفسير الجلالَين) وقد كتبه السيوطي على لسان عشرين شخصاً، وهم يقصون ما جرى لكل واحد منهم ليلة زفافه واتفق مع حليلته! فضلا عن «رَشَد اللبيب إلى معاشرة الحبيب» لأحمد بن محمد بن علي اليمني.
كاتب عراقي