
مدخل:
الشِّعر والتَّصَوُّف ينبعان من مكاناً واحد.. يتجهان دون تكلّف أو تصنع إِلَى الله.. والله في مرموز التَّصَوُّف هو الذات العليا.
*
الْكَلِمَة الأولَى:
للتصوّف حضوره المؤثر في حياتنا، والقصد بالتَّصَوُّف، هو التَّصَوُّف العالمي بمعناه الدلالي لا الخاص كالتَّصَوُّف الاسلامي الذي عرفه الطوسي "حال لعبدٍ نظر بعينه إِلَى ما أنعم الله به عليه.. فأحب الله عزّ وجلّ" او كالتَّصَوُّف المسيحي الذي يتخذ من حياة المسيح موئلا أو البوذي الذي يتخذ من حياة بوذا القائمة عَلَى التأمل والترحال.
ولشعر التَّصَوُّف خصوصية، فهو شعر يحاكي الذات متوجها بخطابه إِلَى الذات العليا.. وخطاب الذات العليا يتطلب قدرة خارقة عَلَى الابداع.. قدرة مصدر خروقيتها انها غير متكلفة او متصنعة، لان المخاطب هو ذات عليا وليس مجرد ذات سفلى. وهو ايضا شعر غزيز سهل الاستيعاب ولكنه السهل الممتنع.
كل تلك الاسباب ادت إِلَى تخلق ميزات لا يجدها القارئ في القصائد الاخرى ان المرء ليجد لذة في قراءة القصائد ذات المنحى الصوفي.. لما لها من خصائص وسمات تختلف عن غيرها من الانواع الشِّعرية أبرزها الاغراق في الرمزية عبر الإيهام والغموض والتعقيد. والعاطفة الصادقة عبر الصياغة غير المتكلفة او المتصنعة
تجليات الوطني:
امامي عدة قصائد للشاعرة والروائية البحرينية جميلة الوطني تسير عَلَى هذا المنحى وان بدى نحوها مغايراً لما الفناه عن شعراء البحرين..
روح ليلية:
فكما التَّصَوُّف لا يأتي جزافًا بل يأتي بعد التنقل بين المراتب والدرجات، إِلَى مرتبة تمكن المريد من التعبير عن لذة الحال التي وصل إليها، ف الشِّعر هو كذلك، لا يأت الا لمن تبحر عميقا في بحار الشِّعر..
من أبرز مظاهر الشِّعر الصوفي عزوف تجاه النظرة التقليدية للحزن إِلَى نظرة عميقة هادئة وقصيدة روح ليلية تتوائم مع هذه المظاهر في انسجام وتناغم.. اذ تسجل ذات الشاعرة واحدة من أكثر لحظات حياتها ضعفا ووهنا.. ولان القصيدة لم تأت جزافا، لم تتوجه بالخطاب إِلَى ذات سفلى ادراكا من ذاتها الشاعرة، ان تلك الذات "السفلى" مجرد شيء موازي أو مكافئ لخصم الليل ولا يمكن باي حال من الاحوال ان تكون جسرا لحلحة الاحزان وعكسها.. تلبسني تجاعيد الليل/في عقر فراشي/تتأبطني الآهات/حتى آخر أنة من أنيني
لذلك توجه ذاتها في الخطاب/ القصيدة/ إِلَى الذات العليا.. تلك الذات التي تستوعب الجميع في إطار من المحبة.. تلك الذات العليا مثل حضن الام الذي لا يمكن لاي طفل ان يستغني عنه..
ها هي تلك الذات وبعد تقدمه حملت كثيرا من الألفاظ الصوفية ذات الدلالات الرمزية، والدائرة حول معانٍ روحية ووجدانية تشير ضمنيا إِلَى ولوجها بوابة التَّصَوُّف من اوسع أبوابه وعبر أرقي معانيه.. وفي نهاية المطاف استفاق حرفي/وأهتدي/ في دار العزلة.
في تلك الدار.. تخاطب الذات العليا. الانكسار واضح كعادة شعراء الصوفية امثال ابن الفارض والعدوية، لكن بوصلتها تتجه ب الشِّعر وصولا إِلَى الذات العليا، حيث تبحر بها عَلَى امتداد حديث الروح.
حصاد العافية:
هل يهتم الصوفي لعافيته وصحته.. انه ببساطة يتركها للخالق، ذلك الترك يتجسد في الشِّعر الصوفي في أبهى معانيه.. في قصيدتها حصاد العافية تتراكب الصور الشِّعرية لتؤكد نزوحها الصوفي
في جنح الليل/كحبة قمح تطحن/بين فكي الرحى/أتهاوى مع الوجع/وتحت ظل الوسادة/ غاص السقم/ وثرثر الألم/ عَلَى شفاه الصباح
المرء يتهاوى مع اشتداد المرض لكن تلك الشدة تدفع الشاعرة إِلَى الكشف عن لا مبالاتها بالالام بغوص السقم..لقد غاص السقم وثرثر الالم عَلَى شفاه الصباح..
يتتابع الوجد الصوفي.. جسدي تاهت أناته/وارتجف وجعا/عساه يرقد بسلام
مبتور الإحساس/ عَلَى اعتاب النهار /وتحت سدرة العافية/توقف الضجيج/ مكممة الفاه/بثغر مبتسم.
الى من يشير الثغر المبتسم؟ هل يشير للذات العليا القادرة عَلَى حلحلة كل تلك الاحزان التي باغتت الشاعرة ام إِلَى ذات سفلى يستحيل معها ان تبقى مبتسمة كما العليا.؟
الصوفي يكتب باللغة نفسها التي يكتب بها الناس جميعًا وقصائد جميلة الوطني، البسيطة غير المتكلفة، والصادقة، جاءت بلغة الناس، لإنها من طينة الارض، وصوتا معبراً عن اصوات الناس جميعا..
لنا لقاء في تناولات اخرى..