جان فيليب توسّان: الكاتب في مشغله

2022-03-07

منذ سنواتٍ والكتب التي يضعها مؤلّفون حول فنّ الكتابة بشكل عام، وحول طقوسهم أو طقوس كتّاب آخرين، تحتلّ مساحة متزايدة في المكتبة، ليس عربياً فقط، بل كذلك في بلدان مثل فرنسا والولايات المتّحدة وألمانيا. ظاهرةٌ تشير إلى الشغف الذي تُثيره الكتابة، من ناحية، حيث بات يُنظَر إليها كفنّ يمكن تعلُّمه، بل يمكن له المساعدة في مواجهة شقاء الحياة وحتى كوسيلة للشفاء من أمراض مثل القلق والاكتئاب.

كما يُشير صعود الظاهرة، من ناحية أخرى، إلى تزايد الرغبة لدى الشباب وعموم الناس في الكتابة؛ وهي رغبةٌ يكمّلها حبّ الاطّلاع، بل التلصُّص، على أسرار هذا الكاتب أو ذاك. وضمن هذا السياق يمكن قراءة الهوَس بتلك الأعمال التي تشرح لنا طقوس كتّاب مثل بلزاك وهمنغواي وفلوبير، أو التي يضعها مؤلّفون مثل ستيفن كينغ أو ميلان كونديرا أو جويس كارول أوتس حول رؤيتهم إلى أساليب الكتابة الروائية.

ليس بعيداً عن هذه الأجواء يأتي كتاب الروائي البلجيكي جان فيليب توسّان، "أنتَ الكاتب"، والصادر حديثاً لدى منشورات "لو روبير" الفرنسية، ضِمْن سلسلة "أسرار الكتابة"، التي لا تُخفي إحالتها إلى هذا الهوَس بالتلصُّص على مشاغل كتّاب معروفين. وكغيره من المؤلّفين الذين نشروا في هذه السلسلة، لا يُبدي توسّان نفوراً من هذه التلصُّصية، بل إنها تشكّل بالنسبة إليه سبباً لمشاركة تجربته كروائي مع الراغبين من القرّاء في الاطّلاع عليها.

يبدأ توسّان من البداية، أي من الاقتباسات التي يضعها الكُتّاب عادةً أعلى نصوصهم، وهي أسلوبٌ بلاغيّ يعترف المؤلّف أنه لم يلجأ إليه إلّا ثلاث مرّات في أعماله العشرين، مفضّلاً الاقتصاد في استعراض اطّلاعه، وعدم إبعاد القارئ عن أجواء نصّه. وهو يشير إلى أن استخداماته الثلاثة هذه لم تمرّ من دون ملاحظةٍ لغرابتها، خصوصاً افتتاحه لكتابه "الحمّام" بجُملة هي عبارة عن بُرهان رياضي وضعه فيثاغورس. وفي هذا الفصل الأوّل يعرّج الكاتب، سريعاً، على طريقة تناول بعض زملائه للاقتباسات، معترفاً بأنّ أفضل ما قرأه في هذا السياق اقتباسٌ يُحال إلى ليوناردو دي فينشي وضعه الروائي كلود سيمون في مقدّمة كتابه "الطريق إلى مقاطة فلاندر": "كنت أعتقد أنني أتعلّم العيش، لكنّني كنت أتعلّم الموت".

على هذا المنوال يتنقّل الكاتب البلجيكي بين تفاصيل الكتابة كما يراها، وتفاصيل مشغله الإبداعي، مقدّماً نصوصاً تجمع بين السرد والمقالة، أي أقرب إلى ما يُعرَف بفنّ المحاولة، كاشفاً مثلاً عن هوَسه، مثل القرّاء، بما يعتمل وراء الكواليس لدى الكتّاب الكبار أثناء تأليفهم أعمالَهم، مثل مارسيل بروست، أو واصفاً المكتب الذي يعمل فيه، أو بالأحرى المكاتب، حيث يقدّم جردةً بالمدن التي كتب فيها، جالساً إلى طاولاتٍ مختلفة وفي أجواء كتابية متناقضة أحياناً: الجزائر العاصمة، برلين، روما، مدريد، كورسيكا.

من أجواء الكتاب نقرأ، في نصّ قصير بعنوان "عيون الكاتب السبع": "كي يكتب المرء، لا بدّ له من سبع عيون: عينٌ على الكلمة، عينٌ على الجُملة، عينٌ على المقطع، عينٌ على الفصْل، عينٌ على البناء، عينٌ على الحبكة ــ وعينٌ أخيرة وراء الرأس، مهمّتها السهر على ألّا يدخل أحدٌ إلى المكتب الذي نجلس إليه للكتابة. لكلّ واحد من هذه المجالات التي تسهر عليها هذه العيون قواعده، وكلّ واحدٍ منها يخضع لقوانين الشخصية. وأيّ خطأ في واحد فقط من هذه المجالات سيعني، بلا أدنى شكّ، خطوةً في الطريق الخاطئ".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي