
جاسم عاصي
أُجوّز لنفسي أمر تغيير عنوان كتاب «دفتر صغير على طاولة» لحسن العاني، الذي تعلمت منه الكثير من الدروس، أهمها التواضع والدأب على تعميق المعرفة. فمن حقي أن أرى. الدفتر كبيراً فأحذف صغيراً، لأني وجدت في متن كتابه غزارة وكِبَر معنى، ما عمّق الخصائص الذاتية والموضوعية التي رشحته لمثل هذه المنزلة الرفيعة، لا للصغر. فالكتاب بحجم ما فيه كالإناء بمائه. وهي نظرة فلسفية ــ أُسطورية خالصة، فالأُسطورة تعطي نفسها مباشرة وتغويك بما تضمر من معان، تدفعك للبحث والتقصّي وتأويل الكلام. فهي حمّالة أوجه وثراء.
ولعل العاني يشتغل على مستويات من التعبير في الأدب، قصة ورواية، وقراءتي لنتاجه الإبداعي فوضني القول إنه يعمل على تعميق دربة السرد، فهو جاد في طروحاته الفكرية والاجتماعية، لكن ما ميّزه على صعيد قرّاء شموليين هو كتاباته في حقل العمود الصحافي والتحقيقات الصحافية.
في كتابة العمود الصحافي كان الكُتّاب قلة، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الإجادة في الطرح، سواء في المعنى أو المبنى. فمنذ عمود (أبو سعيد، أبو كَاطع، داود الفرحان) وجدنا في أعمدتهم صلة بالواقع، صلة معمقة سابرة لخفاياه. فهي اعتمدت رؤى الموهوب وهو يقلّب صفحات ما يجري، عبر مناهج ساروا عليها، كل من منطلقه ومن عمق موهبته وتجربته. ومن أجل هذا كيّف كل واحد منهم عموده لحراك ما كان يجري، ووفق خاصية ذاتية. أي لمسات ذاتية الكتابة الناقدة والفاحصة، ضمن منهج ورؤى ذاتية، لها علاقة بمنهج الكاتب وبنيته الفكرية وسليقته المزاجية التي شكّلت صورة شخصيته. فليس من الصعب تأشير عمود هذا عن ذاك، بسبب التراكم الكمي الذي أنتج نوعاً ذا حمولات متعددة، بل من البساطة جداً. لذا نرى في عمود الكاتب والصحافي حسن العاني خاصيات ذاتية وموضوعية، لم يغادرها إلا لممارسة اختيار السمات التي تغنيها منهجاً ورؤى. وهي من أصعب التوجهات، لأنها تُصيغ الشخصية المنتجة. فعموده يتميّز بنكهة اجتمعت على تجربة في الكتابة، أي تراكم عملي طيلة سنوات طويلة، لم ينفك عن ظهور نتاجه في الصحف والمجلات. ولعل عموده في صحيفة «العراق» تحت لافتة (ضربة جزاء)؛ جزاه الله خيراً عليه، ويستحق كل ما قيل وجرى بحقه آنذاك. ونقصد إيقاف نشره، لأسباب تتعلق بشرف المهنة الصحافية، والإيمان بفكر العامّة.
وهنا وضمن هذه المتابعة سنقتصر على أهم الخصائص، ومنها (الوفاء للناس/الوفاء للأصدقاء/ اللغة الساخرة /العمق الدلالي/ الرغبة في التبسيط حد التعميق/ الدربة في تحليل الواقع/الحيادية المفترضة /الانحياز الوضح للحقيقة) وغيرها. وهذا يتطلب عيّنات، سنحاول حصرها. علماً أن متن الكتاب وتقسيماته تتطلب دراسات، ليس بما توفرت عليه، وإنما من أجل استلال خاصياته، التي هي خاصيات كاتب العمود العراقي حسن العاني. وهذا بحد ذاته يعني شيئاً، وفيه دعوة لوضعه ضمن مناهج الجامعات التي تدرس الإعلام والصحافة.
في العتبة «دفتر صغير على طاولة» أُلحق به تعريف (وجوه وحكايات). وهذا في تقديرنا له معان كثيرة، أولها: إن الكتاب يتضمن صور وجوه النماذج، ليس فقط الأصدقاء والمعارف، بل إنها وجوه الجميع، فهو مدونة الجميع بشتى صوّرهم وانتماءاتهم الفئوية والطبقية، أي عامّة الناس. لأن الكتابة هي عنهم، ومن حراكهم اليومي استلت المعاني، فكانت زاد الكتابة. أما (حكايات) فهي فعلاً سرديات مروية على شكل نبرات حكائيه. فالعامّة لهم حكاياتهم، والواقع العراقي ممتلئ بالحكايات منذ كتاب الليالي وشهرزاد، التي قهرت شهريار عنوان التسلط والجبروت الذكوري، فالعاني يُحرض نماذجه للثورة على ذكورية وبطرياركية التسلط. أما الإهداء، فهو مرٌّ بحق، لما يحتويه من وجع، هو وجع العاني، وقبله وجع الراحل مهدي عيسى الصقر، حيث كان عنوان كتابه السييري. يُهدي العاني كتابه، ويستدرك معتذراً من الأبناء بما ترك لهم ولم يترك (قطعة الأرض، الرصيد المالي، القصر، إرثا) فقد ترك لهم وجعا ذاتيا، سيفرش للآخرين بساط هذا الوجع في لاحق الأزمنة، كي لا يصيبهم داء الصداع، وإنما داء الثورة على الواقع المُعاش.
في كتابة العمود الصحافي كان الكُتّاب قلة، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الإجادة في الطرح، سواء في المعنى أو المبنى. فمنذ عمود (أبو سعيد، أبو كَاطع، داود الفرحان) وجدنا في أعمدتهم صلة بالواقع، صلة معمقة سابرة لخفاياه.
أما في مجال المحتوى فنرى أنه يميل إلى نفسه لتقدير حجم الحيف، فيذكر (خمسة عقود ونصف العقد.. زوادة السفر محمولة على ظهر جواد أنهكه الجري والجوع والعطش، لكنه يواصل الركض). وهي ليست شكوى مما جرى، بل هي كشف واقع الحال. أما بصدد السخرية والتهكم، فقد طرح رؤيته الحاذقة عبر ما وقع من خطأ في الصحيفة إذ يذكر (الفرق كبير ويقلب المعنى، ويُثير حساسية دبلوماسية وسياسية وقائمة من التهم الكفيلة باقتياد المصحح إلى محكمة العدل الدولية، قبل أن تُصبح مؤسسة أمريكية). ويختتم طلبه للاعتزال بسبب ما كتبه وحصد الاعتراض (لم يمت أحد منهم في سنوات الجوع) إلى عبارة (أنا أُفكر إذن أنا أعتزل!).
أما في (القنصل البريطاني) فقد شهدت الكتابة إعلان المفارقة بين صلاة الاستسقاء ونهري دجلة والفرات. حكمة القنصل تتركز في حجم الإهمال والانقياد للوهم ليس إلا. كذلك واضح ما يضمره العمود من بلاغة القول، بسبب توغله في العمق الدلالي النقدي. في (امرأة معجونة) نرى أن بلاغة العمود تنطلق من العنونة، لأنه جعله مبتوراً. وهي حبكة نصية أراد بها التدليل عبر الاختزال المباشر. فالداخلة لحقل الرجال بشجاعة ـ وهنا أكتب عن المرأة العراقية في مثال كهذا ـ الشجاعة التي أرعبت ذواتهم، ما دفعهم إلى التحفظ. ولم تأل جهداً في بلاغة تلقائيتها، حتى فتحت مصراع بيت (العاني) والدخول إلى عالم أُسرته دون استئذان، بل باقتحام تسوده قوة الإرادة والتلقائية، ما فتح لها صفحات في كتاب عائلته، فغدت من أقرب الناس إلى قلب الزوجة. وكانت النتيجة أن (بكت طوال السنوات بحزن عميق ودموع ساخنة سوى مرة واحدة في عام 2013 يوم بلغها نبأ وفاة صديقتها أُم عمّار). هذه العبارات التراجيدية، كانت حصاد للتلقائية وقوة الشخصية، التي لم تترك فراغاً يُمليه التوجس والظن.
لقد تعلق وقدّر فنانين كاركاتيريين هما خضير الحميري وعلي المندلاوي. وهو بحق موقف يُحسد عليه الكاتب، بسبب استثناء هذين الفنانين أولاً، ودأبهما الطويل في تحقيق رقي وممارسة هذا الفن. فهما فنانان مارسا التحوّلات في فنهما وعمقا دلالة رسوماتهما، فكيف بالعاني الذي يحمل زوادته المرهفة. وثانياً: تجربته الصحافية معهما عبر الدوريات الصحف والمجلات، فهما بحق مكملان لتربته في الكتابة، بل وأتجاوز في القول، إنهم (الثلاثة) ينهلون من بعضهم، لما توفر في شخصياتهم من عمق معرفي ومهني لا يُحسدون عليه، بل هو مبعث فخر وتندر في المجالس ولكل المناسبات.
خاتمة القول:
لعلي وأنا أفرد هذا المجال لخاتمة الكتاب هذا. وهو أمر يتعلق بالمراثي، فحدسي ذهب بالسؤال: كيف يُرثي العاني حسن جزؤه الأهم في الدنيا الواعدة، وهي التي وسّعت دائرة منزله وقت الشدائد والمحن. ومن هرّب العوائق حيث المهملات، مستحدثة الأفضل الذي لا يعكّر مزاجه.. كيف؟ وكيف؟ من أهدته (عمّار، أُميمة، مخلّد) كيف؟ وكيف يُجيب العاني ببضع أسطر تُعد، لكنها لا تُعد بسهولة، بسبب حمولتها وتورية ما يمكن حسابه علناً، وهي خاصية نصه. يقصد في مستهل رثائه بـ(إن أماكنها تبقى ماثلة أمام العين وفي ثنايا الروح وجراح الذاكرة.. لرحيل السيدة «أُم عمّار» طعم لا يشبه إلا نفسه، ووجع لا يشبه إلا نفسه.. حين يكون عشقاً لم تطفئ جمرته أعوام الانطفاء) ثم يميل لكشف طبيعة مشاعره (عذراً يا صفوة الأصدقاء وصفوة الروح، إذا شكوت وجعي، لأن للحزن على شفتي طعماً آخر) ويسترسل بوجع أكبر (كانت تتوهم أنني رجل يستحق أسباب الراحة على حساب راحتها) أو (حاولت منعها من المغادرة، ورجوتها بتوسل أن تؤجل خيارها دقيقة أُخرى، دقيقة حياة واحدة، ياه… خمسون سنة ومع ذلك أستجدي بقاءها دقيقة.. واحدة!).
هذا الوجع المضمر في ذات العاني، ألا يستحق الذكر. فهو خاتمة للسان ذات متوجعة، أجّلها بعد أن تخفى طويلاً بين طيات سطور متون الناس من العامّة والأصدقاء والمحبين، حيث لم يترك شاردة أو واردة حتى بلغها ببلاغة متفردة. هذا هو العاني باق بحيوية عطائه ينتظر من يُنصفه في الدنيا، قبل الآخرة!
كاتب عراقي