فلاديمير بوتين.. زعيم روسيا الذي يقامر بإخراجها من "إدارة الكوكب"

2022-02-12

إبراهيم الجبين *


لا يمكن النظر إلى لقاء القمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيسي الفرنسي إيمانويل ماكرون إلا بعدسة التاريخ. أوكرانيا آخر الخطوط الحمر التي يريد الغرب أن يتجاوزها كدفعة أخيرة من جائزة انتصاره في الحرب الباردة قبل ثلاثين عاما. فالناتو في أوكرانيا يعني أنه وصل إلى العمق الروسي.

صاحب العقدتين
نجح الغرب في فرض الاستعداء الشامل من الروس الليبراليين، وهو لا يحتاج أن يستعدي القوميين الروس. في منطقة رمادية كان بوتين يقف ويتأمل كيف تبددت وعود وزير الخارجية الأميركي الأسبق جيمس بيكر لزعيم الاتحاد السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف بأن الناتو لن يتمدد في فلك الاتحاد السوفييتي السابق. لم تكتب هذه الوعود في اتفاقية، وما كانت ستكتب.
بوتين صاحب العقدتين الشخصيتين، العامة والخاصة. العامة في مشاهدة إمبراطورية بحجم الاتحاد السوفييتي وهي تلهث منقطعة الأنفاس في سباق غير متكافئ مع الولايات المتحدة ومحاولات إنقاذها بالحديث عن الإصلاح (البريسترويكا والغلاسنوست)، ثم نهايتها وتفككها. والخاصة عندما كان ضابطا برتبة متوسطة في مكاتب المخابرات الروسية في برلين يوم انهار الجدار، وصار عليه أن ينقذ شرف مؤسسته بمنع الاستيلاء على أسرارها من قبل الناس الذين تدفقوا يبحثون عن شيء ينتقمون منه. بوتين اليوم في مهمة مماثلة من وجهة نظره لا يمكن أن يستوعبها ديمقراطي غربي منتخب مثل ماكرون. إنقاذ شرف الأمة الروسية من خطر داهم على حدودها سبق وأن عبث بمقدراتها.

سيكون على بوتين أن يتنبه هذه المرة، فالعالم يعوّل على سيكولوجيا الزعيم الروسي أكثر مما يعتمد على حكمة منع وقوع الحرب، والحرب إن وقعت فستكون الضربة الثالثة والأكثر خطورة على الكيان الروسي كله.

الأولى تعود إلى لحظة انهيار الدب السوفييتي، والثانية كانت عبر موجة الثورات العربية التي كان بوتين أكثر من يخشى من امتدادها شرقاً وشمالاً إلى جمهورياته الإسلامية. لم يكن غافلاً عن ذلك حين اعتبر أن وجوده العسكري في سوريا إنما هو حائط صد يجنّب الكيان الروسي مصائب لن يكون بوسع أحد التنبؤ بالنقطة التي ستتوقف عندها.

وها هو اليوم في أوكرانيا يحاول رسم خرائطه الدفاعية. خرائط حسب حسابها مبكراً حين ضم شبه جزيرة القرم وأعلنها أرضاً روسية. والمشكلة أن هذا كله تحرّكه خيارات بوتين لا مشورة جنرالاته، وهم الأدرى بنتائج ذلك، فمن يريد اليوم حرباً من غير المعلوم مع من ستكون، وكيف ومتى ستضع أوزارها؟

الهدايا المسمومة

حكمة القاعدة السياسية القديمة أن الهدايا في السياسة دوماً مسمومة، لم تبدأ نتائجها في الظهور بعد في حالة بوتين، قدّم له الغرب سوريا على طبق من ذهب، وتفاهم الأميركيين معه كان نوعاً من التفويض، كان يصغي إلى خبرائه قبل ذلك، مكتفياً بالمراقبة، لكنه دُفع دفعاً بالإغراء والشغل من جديد على الإيغو العالي لديه، حتى أنه بات يستعرض كل مرة حين يجلب رئيس النظام السوري بشار الأسد إليه بطائرة ثم يعيده سراً كما جاء، ليقول للعالم إن هذه المهمة قد أنجزت.

غير أن هذا ليس رأي كبار صناع السياسة الخارجية الروسية، فالوزارة بأكملها تقريباً باتت في حالة يأس من تحقيق رغبة بوتين بإعلان انتصاره في سوريا. قد يمكن ذلك عبر الحملات الصاروخية وتجريب أنواع الأسلحة واستعادة بعض المناطق، لكنه لن يصنع خشبة مسرح ينهي فيها مشروعه مع الأسد. فهناك عمل دبلوماسي مع العالم والأمم المتحدة، وهو ما لا يتيحه وضع الأسد، ليس فقط لأنه لا يريد، بل لأنه لا يستطيع تقديم المزيد لبوتين. وهو ما يشتكي منه مسؤولو الخارجية الروس منهين همساتهم بالقول ”ذاك الذي يسكن الكرملين هو وحده فقط من يريد الاستمرار“.

لا يستطيع الإسرائيليون إنقاذ بوتين من ورطة سوريا، وانسحابه منها سيكون هزيمة وهبة مجانية يقدّمها لخصومه وكذلك لحليفه الإيراني الذي لم يراع المصلحة الروسية في أيّ تحرك له على الخارطة السورية.

لكن سوريا ليست موضوعنا اليوم، فهي مجرد حمولة من الحمولات الثقيلة التي وضعها بوتين على كاهل روسيا، اليوم ستكون أوكرانيا هي المسرح.

ماكرون قال بعد اجتماعه الغرائبي مع بوتين إن الأخير أكّد له أن ”القوات الروسية لن تُصعّد الأزمة بالقرب من الحدود الأوكرانية“، وأضاف ”حصلتُ على تأكيد بألا يحصل تدهور أو تصعيد في الأزمة“. لكن الروس قالوا أيضاً بالتوازي مع ذلك إنّ “أيّ اقتراح بتوفير ضمانات يعدّ أمرا غير صائب“.
يطيب لبوتين أن يجعل العالم يقف على رجل واحدة، بانتظار قراره، هو يعتقد مثل من سبقوه أن هذا يكمل بهرجة زعامته القومية التاريخية كمنقذ ومخلّص لروسيا. لكنه أيضاً يعرف ما الذي تخبّئه له الخطط طويلة الأمد للأميركيين.

كان مهماً للغاية ما كتبه روجر بويس في “التايمز” البريطانية محذراً الروس من حماقة قد يورطهم فيها بوتين، قائلاً “يجب جعل بوتين يفهم أن غزو أوكرانيا سيكون عملا من أفعال إيذاء الذات الأساسي لروسيا، ونهاية حلمها بأن تكون قوة عظمى مع امتداد عالمي“، وأضاف بويس إن “التحليل الروسي للطموحات المبكرة لإدارة جو بايدن كانت أن الرئيس (الأميركي) الجديد سوف يتخلص من بعض أعباء أميركا من أجل التركيز على تحويل التنافس الجيوسياسي مع الصين إلى نوع من الإدارة المشتركة للكوكب“.

إذا كان الروس يفهمون النهج الأميركي على هذا النحو، فهم لن يقبلوا بتحييدهم من أجل تفاهم أميركي – صيني قادم يجعلهم مجرّد حجر على رقعة الشطرنج.

في حال كان بوتين يدرك هذا جيداً، فهو في وضع حرج اليوم. لن يحقق انتصاره في أيّ مكان، وعليه أن يتعلم كيف يتراجع في الوقت المناسب، وهو الذي لم يفعل شيئاً مماثلاً منذ أن آلت إليه السلطة.

أما المشاركة في إدارة الكوكب فهي تحتاج منه أيضاً تنازلات من الصعب أن يقدم عليها، فهي تمس الشخصية الروسية التي يجسدها بوتين والتي ما زالت ترفض الانجراف في العولمة، بدءاً من الديمقراطية الغربية التي يعتبرها بوتين نموذجاً قديماً غير مناسب، إلى اقتصاد السوق الحرة، إلى حروب الغاز، وشبكة الإنترنت السوداء، وقوانين حقوق ملكية الابتكارات التكنولوجية، إلى القضايا الأصغر كالمثلية ونظائرها من قيم الغرب. تلك الشخصية ستكون في تحدّ صعب مع الشراكة.

الصين تختلف عن روسيا، لديها معادلاتها عند الأميركيين، أما بوتين وروسيا فهما ملف يكاد يكون منتهياً، أشبع درساً وبحثاً وتُرك في النهاية بين يدي بوتين ليحسمه بنفسه.

بيكين تشجّع بوتين على المضي في تحديه للغرب، وحتى قبل أيام قليلة، كان رئيسها شي جينبينغ يدعو مع بوتين إلى “حقبة جديدة” في العلاقات الدولية تضع حدّاً للهيمنة الأميركية.

الرئيسان وجداها فرصة للتنديد بدور حلف الناتو وحلف ”أوكوس” الجديد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، متهمين الحلفين بأنهما يقوّضان “الاستقرار والسلام العادل في العالم“.

لكن العالم ما يزال يضغط على الروس، وها هي وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس تذكّرهم في مؤتمرها الصحافي الساخن مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف إن حرب الشيشان كانت حرباً مكلفة، وأن الحرب في أوكرانيا ستكون طويلة جداً.

لم يبدُ لافروف ناطقاً باسم بوتين، على الرغم من أنه غضب ووجه إهانات لتراس رغم أنها ضيفته، بعد أن توسّع في وصف الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب على روسيا والسيناريوهات الوهمية التي اعتبر أن بريطانيا رأس حربة في تلفيقها ضد بلاده.

كان لافروف يوجه رسائل في العديد من الاتجاهات من بينها بوتين نفسه، حين تحدّث عن قرب عودة القوات الروسية إلى مواقعها وانتهاء التدريبات الروسية والبيلاروسية، وأضاف ”حينها سيقول الغرب الذي يريد تحويل موضوع أوكرانيا إلى دراما وكوميديا إنه قد انتصر على الروس“، وترجمة ذلك أنك لن تحقق انتصاراً في أوكرانيا يا سيدي الرئيس، فلا ضرورة لأن تمنح الغرب انتصاراً بلا مقابل ما دام هناك مخرج.

من سيطلق الرصاصة الأولى؟

من الذي سيطلق الرصاصة الأولى في الحرب؟ لن يكون الغرب بالتأكيد. ولا توجد ضمانة تقول إن بوتين لن يفعل هذا استكمالاً لأبّهته التي توّجت بمئة ألف جندي على الحدود الأوكرانية، ورفض انضمام أوكرانيا إلى الناتو ووقف توسّع الحلف شرقًا.

الروس أعلنوا إجراء تدريبات ضخمة في بيلاروسيا ستمتد خلال الفترة من التاسع إلى العشرين من فبراير. وهذه الأيام ستكون حاسمة في رسم مستقبل بوتين وروسيا التي نعرفها، الغرب يكاد يكون متيقناً من أن بوتين سيجتاح أوكرانيا، كما يؤكد ماتيو بوليغ من مركز تشاتام هاوس البريطاني للأبحاث الذي يقول إن “روسيا تتحضر، من الناحية العسكرية، لعدد كبير من الاحتمالات؛ من حرب نفسية عبر هجمات سيبرانية وإعلامية إلى غزو ضخم، ولم تعد المسألة بالنسبة إلى موسكو إن كانت ستتدخل في أوكرانيا ولكن متى وكيف“. مناخ يذكّر بمباحثات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق نيفيل تشامبرلين في ثلاثينات القرن الماضي في برلين لمنع غزو الجيش الألماني للتشيك، ونظرية المسؤول البريطاني المحنّك التي حالف بها من حوله، حين رأى أن منع وقوع الحرب اليوم قد يساعد في الاستعداد لها لاحقا، لكن مفاجآت الرئيس الروسي التي لا تنتهي قد تحمل ما لا يتوقعه الغرب، وربما سيضرب بوتين في مكان آخر بينما ينشغل العالم بأوكرانيا، على أن يكون ذلك هو الثمن لتراجعه عن غزو البلد الجار، أقرب تلك الأهداف هو مقايضة بايدن بملف أوكرانيا بما يعرف عند بوتين بـ”هندسة أمن أوروبا“.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي