الطيور.. ذلك اللغز الذي يصعب فهمه!

2022-01-26

حسن داوود

كان ينبغي لانتحار الرجل الذي اسمه روي . س أن يُترك لآخر الرواية، لا أن يمرّ ذكره مرورا عابرا في منتصفها. لأنه الشخصية التي تقوم عليها الرواية أولا، إذ ماذا سيُنتظر من باقي الصفحات أن تحمله بعد موته. كما أننا لسنا في رواية بوليسية، حيث الانتحار يزيد الأحداث اشتعالا، كأن ينشط ذكاء المحقّقين وتظهر، بالحنكة المبهرة، المفاجآت والانكشافات الأكثر تشويقا. هنا، في روايته «شرح الطيور» يبدو الروائيّ أنطونيو لوبو أنتونيش، كأنه يميت الأحداث عن قصد. يجعل كبيرها يمرّ مرور تفصيل عادي، بذلك يخربط السياق الذي اعتادت الروايات على اتباعه، فيحلّ الخاتمة في الوسط، ويكرّر ذكر الواقعة مرّة بعد مرة، كأن ما سيقرأ في الصفحات التالية، لا يعد بأن يحمل جديدا، أو كأن الزمن، الجارية فيه حياة روي . س، أشبه بدوّامة، دائرة لا تتوقّف عن الدوران، مراكِمة حولها دوائر لا تتوقف عن التشكل. هكذا يستعاد ذكر الحادثة مع كل دائرة جديدة تتكون، كما يستعاد معها كل ما كان قد ذكر معها. وما حدث قليل على أي حال، إلى حدّ أنه لكي تصنع منه رواية، ينبغي لكاتبه أن يُبقي طاقته التخيّلية نابضة ومستفَزّة على الدوام، وأن يكون حرّا من كل ما هو مقيّد. من ذلك مثلا أنه لا يعلمنا ماذا حلّ بأمّه المريضة في المستشفى، وكان قد بدأ روايته بزيارتها. في ما تلى من صفحات، وهي كثيرة، أبقى الروائي تلك الأم هناك، ممدّدة على السرير، وإلى جانبها ابنة عمه، الساهرة إلى جانبها تحيك بصنارتيها شيئا لن يتخذ شكلا، رغم العودة المستمرة إلى وصفه.

ولن نحظى بجديد يُقال مع كل عودة إلى ذكر المشهد ذاك. لا شيء يُستكمَل حدوثه. لن يُزاد شيء كثير على ما كنا عرفناه عن علاقة روي . س بمطّلقته توشا، ولا عن ولديه اللذين احتفظت هي بهما بعد الطلاق. كما لن يعبر أيّ من الولدين عبورا كافيا في الرواية. هما فقط ولدان باقيان مع أمهما، بلا شكل ولا هيئة تصفهما، ولا عمر يحدّدهما، ولا كلام يصدر عن أيّ منهما. أما امرأته الثانية ماريليا، تلك التي يقيم معها بعد طلاقه، فسيتكرّر وصفها دون تغيير يذكر كلما وصل إليها السرد الذي لا يكف عن الالتفاف والاستدارة. لا حصر لعدد المرات التي ذُكرت فيها شيوعية ماريليا، وضخامة كفيها وحذائها الخشبي، وقبحها حيث لم تلق رضى من أهله، ولا من جيرانه في البيت المتواضع الذي أقاما فيه، ولم يعرف هو إن كان يحبّها فعلا طالما أنّ طليقته ما زالت حاضرة، وبقوة، في ما يدور في رأسه. هما، المرأة الأولى والمرأة الثانية، القديمة والجديدة، حاضرتان معا في حياته، جنبا إلى جنب، وسواء بسواء، حيث لا فرق كبير بين ما كان قد عاشه في الماضي وما يعيشه الآن.

رواية مغرقة في سوداويتها وفي سيرياليتها. كنا ننتظر، تبعا لعنوانها الغريب، ولحضور الطيور فيها، أن تنضوي خاتمتها تحت ذلك الثقل الذي للطيور فيها.

سرد متدافع ينتقل من كل شيء إلى كل شيء دون ضابط سياقي تدرّجي تلتزمه الأعمال الروائية في العادة. هنا نحن إزاء جملة تلي جملة لا تتصل بها ولا تكملها. في فيض الكلام المتعاقب وجوه تطّل ثم تغيب، لأن وجوها أخرى ستحلّ محلّها. وقائع يتعاقب حضورها، دون نظام أيضا، كمثل ما يحدث للذاكرة حين تروح تتنقّل على هواها بين ما تحفظه أو ما تحتويه. يكتب الروائي البرتغالي أنطونيو لوبو أنتونيش على غرار ما يعمل تداعي التذكّر غير المنضبط، وهو لا يقدّم تنازلا يعين قارئه على وصل تلك الأجزاء المتذكّرة. لا يقول مثلا عمّن صدرت هذه الجملة، التي قيلت، ومن هو الشخص الذي يُذكر الآن موقفٌ له، كما لا علامات تحدّد متى يبدأ الكلام ومتى يتوقّف.

سبق لروائيين آخرين، من بينهم جوزيه ساراماغو، أن أزالوا تلك العلامات التي أرسيت في كتابة الروايات، وأدخلوا الحوار في السرد، أو أزاحوا علامات الوقف ليبدو المقطع، أو حتى النص بكامله، متصّلا في جملة واحدة. أما أنتونيش فأوغل في تلك التغيرات إلى حدّ إبقائنا حائرين، على مدار صفحات البدء، إذا كان ممكنا استخلاص ركيزة ما للقراءة.

«شرح الطيور» مع ذلك رواية مغرقة في سوداويتها وفي سيرياليتها. كنا ننتظر، تبعا لعنوانها الغريب، ولحضور الطيور فيها، أن تنضوي خاتمتها تحت ذلك الثقل الذي للطيور فيها. كان روي . س دائم الرغبة في أن يعرف (عن الطيور) ماذا هي. كان والده المتفوّق في مركزه كرجل أعمال هاويا لجمع الطيور، لكن تلك الميتة، يحنّطها على ورق مقوّى مثلما تحنّط الفراشات لتوضع في الجوارير. والده هذا، المتفوّق المزدري لفشل ابنه، حتى بعد انتحاره، كان يقول لمجالسيه: «قبيل موته بقليل جاءني يطلب مني أن أشرح له الطيور، كما لو أن الطيور يمكن أن تُشرح: لم أفهم قط ما كان يعنيه بالشرح: هل تفهمون الطيور أنتم؟». ذلك الابن لم يكن يعرف بماذا يجيب حين يسأله والده، وهو يحمل سكينا من تلك التي تُفتح به صفحات الكتب، إن كان يجب بقر بطونها. لكنه أبقى ذلك في داخله، إلى حين موته مشرّحا جسمه بالسكّين، رغم ذلك، تبقى «شرح الطيور» أكثر الروايات غموضا وذلك لعوامل كثيرة بينها أن المقدّمات غير كافية لتبرير فظاعة النتائج.

رواية أنطونيو لوبو أنتونيش «شرح الطيور» نقلها عن البرتغالية بدقة وثراء لغوي سعيد بنعبد الواحد – صدرت عن «منشورات الجمل» في 318 صفحة­ – 2021.

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي