«جيفري برنارد ليس بخير»: بيتر أوتول على خشبة المسرح

2022-01-24

مروة صلاح متولي *

 

كان بطل فيلم لورانس العرب النجم الإنكليزي بيتر أوتول ممثلاً مسرحياً في الأساس، ذهب إلى السينما بعد سنوات من التمثيل على خشبة المسرح، وتحتوي قائمة أعماله المسرحية على الكثير من العناوين المهمة والمتنوعة، التي تنتمي إلى مدارس درامية مختلفة، لكل منها أسلوب خاص في التمثيل وطريقة في الأداء، فهناك الملك لير، وعطيل، وحلم منتصف ليلة صيف، وترويلوس وكريسيدا، وترويض النمرة، وتاجر البندقية، وهاملت، وماكبث من مسرح شكسبير، وبجماليون، والإنسان والسوبر مان، وعربة التفاح، وميجور باربرا من مسرح برنارد شو، والخال فانيا لتشيكوف، وفي انتظار غودو لبيكيت، وبعل لبرتولد بريخت، وغيرها من النصوص المسرحية لكتاب آخرين.
لا شك في أنه كان بارعاً في تفسيرها وتجسيد أفكارها أمام الجمهور، فهو من أهم الأسماء على الإطلاق في تاريخ فن التمثيل، ورغم أنه من الصعب عادة الاطلاع على مثل هؤلاء النجوم في أعمالهم المسرحية المسجلة، إلا أن موقع يوتيوب يتيح مشاهدة بيتر أوتول على خشبة المسرح، في أحد أعماله، التي تم تصويرها عام 1999، وهي مسرحية بعنوان «جيفري برنارد ليس بخير» Jeffrey Bernard Is Unwell تعد من أواخر عروضه المسرحية، وتمنح المتفرج فرصة التعرف على شيء من فنه التمثيلي المسرحي، وتتبع طريقته في الأداء فوق الخشبة، وإن كان في غير نص درامي ثقيل، بشخصياته المعقدة، وأحداثه القدرية المهولة، وأخطائه التراجيدية، فمسرحية «جيفري برنارد ليس بخير» لا تعتمد على نص مسرحي ألفه كاتب عظيم، وجيفري برنارد نفسه ليس شخصية درامية صاغها خيال المؤلف، بل هو شخص حقيقي بحياته الواقعية وأحداثها العادية التي تخلو من الأمور الكبرى، حتى عنوان المسرحية حقيقي غير مؤلف، كان يستخدم في إحدى المجلات البريطانية كما هو تماماً، وكان بطل المسرحية لا يزال على قيد الحياة عندما عرضت للمرة الأولى، كما أنه كان صديقاً لبيتر أوتول الذي جسد شخصيته، بمعرفة يسرت له الأمر كثيراً على ما يبدو، وساعده أيضاً التشابه بينهما في قسمات الوجه القوية والملامح الحادة، قد يبدو موضوع المسرحية غير جاذب للمشاهد العربي بدرجة كبيرة، فالشخصية والتفاصيل والأحداث محلية للغاية، ومسببات الضحك أثناء العرض قد يقتصر تأثير أغلبها على المشاهد الإنكليزي، فالعرض ليس تراجيدياً، ولا يمكن وصفه بالكوميدي الخالص أيضاً، لكن الجمهور يضحك كثيراً على كل حال.

 

الصحافي البريطاني جيفري برنارد هو بطل هذه المسرحية، وهو الشخصية التي يجسدها بيتر أوتول، بتكوينها النفسي الذي يميل بوضوح إلى تحطيم الذات وإهمالها، والعمل على تدميرها بالكحول والتدخين، وبالزيجات والغراميات المهلكة عصبياً ونفسياً، أما عنوان المسرحية فإنه العبارة التي كانت تستخدمها إحدى المجلات الإنكليزية، وتنشرها في المكان المخصص لمقال جيفري برنارد الأسبوعي، عندما كان يتعثر في إنهائه وتسليمه في الموعد المحدد، بسبب إدمانه على الكحول، وفقدانه القدرة على التركيز وإنجاز الأعمال المطلوبة منه، ويتناول العمل ليلة واحدة فقط من حياة هذا الصحافي، قضاها عالقاً داخل أحد البارات، وحيداً مع الخمور والسجائر والأفكار والخيالات، إلى أن جاء صاحب البار ليفتحه في اليوم التالي، فالمكان ثابت إذن، ويظل بيتر أوتول طوال المسرحية في مكان واحد، ولا يوجد انتقال بين منظر ومنظر، ولا حاجة إلى استخدام آليات حديثة وإمكانيات مبهرة، حيث تظهر الشخصيات الأخرى للحظات قليلة، من خلال المواقف والذكريات المتناثرة التي تتداعى على ذهن البطل، فيأتي الشخص ويظهر أمامه، ويوجه إليه بعض الجمل والعبارات الساخرة أو الغاضبة والمؤنبة، ثم يختفي ويحل محله ممثل آخر، كفكرة تتلاشى وتلحقها فكرة أخرى، ويكون تواصل بيتر أوتول كممثل مع هذه الشخصيات، مختلفاً وغير مكتمل بصرياً أو جسمانياً، للتأكيد على أنها مجرد أفكار في ذهن البطل، وخيالات تتجسد أمامه، وعدا تلك اللحظات القليلة المتفرقة على مدى العرض، يكون بيتر أوتول وحيداً على خشبة المسرح، كما يكون جيفري برنارد حبيساً داخل البار، فلا مجال للحوار ويكون الأمر أقرب إلى المونولوغ الداخلي، حيث يتحدث البطل طوال الوقت ويعبر عن أفكاره، ويتذكر بعض المواقف التي تعرض لها في حياته والتجارب التي خاضها.

كان بيتر أوتول في مرحلة متقدمة من العمر إلى حد ما في هذه النسخة المسجلة من المسرحية، لكنه كان يتمتع بالقوة واللياقة والمرونة الجسمانية، التي استخدمها للتعبير عن حالة التدهور التي تشمل جيفري برنارد وتسيطر عليه، ووظف كل هذه الأمور لكي يبدو مسناً ضعيفاً، كما أنه كممثل كان عليه أن يظل طوال الوقت داخل الإطار الأدائي للشخص المخمور، فلا يوجد وعي كامل، أو اتزان حركي سليم، وهذا على العكس من الظاهر يتطلب من الممثل المزيد من الوعي، والكثير من الانتباه الدقيق للتوازن الحركي، وهنا يبدع بيتر أوتول ويتقن هذه اللعبة باحتراف شديد، من خلال السيطرة التامة على الجسد وتسخيره في خدمة الشخصية، ورسم صورته أمام الأعين، فهو يحافظ على مقدار انحناءة الظهر الخفيفة، وطريقة الخطو البطيئة الحذرة، التي تدل على أنه يخشى السقوط، وهو يعبر عن ذلك بشكل لافت، رغم أنه لا يتحرك كثيراً، أو يجوب المسرح الواسع، فالمسرح ليس واسعاً، والديكور يوحي بضيق المكان أو البار، وينتقل أوتول من يمين المسرح إلى يساره، ثم إلى المنتصف وأحياناً إلى العمق قليلاً، وعلى كل حال لا توجد مسافات كبيرة بين هذه النقاط، ورغم ذلك فإنه يبذل جهداً حركياً ملحوظاً، لأنه لا يتحرك بشكل طبيعي، فعندما يجلس على الأرض مثلاً، ثم ينهض واقفاً، يكون عليه أن يحفظ توازنه، وأن يوحي في الوقت نفسه بأنه يفقد الاتزان، وأنه على وشك السقوط، ويمشي بخطوات صغيرة ويضغط بقدميه على الأرض كمن يحاول تثبيتهما، وهو بهذا يخلق إيقاعاً للشخصية، يضبط الممثل والمشاهد معاً، ويتحرك أوتول بطريقة سريعة وكأنه يدور حول نفسه، عندما يدخل إلى المسرح رجل وامرأة بينما يروي قصة عنهما، ويقول أثناء حركته: ثم قالت، ثم قال، ثم قالت، ثم قال، وهكذا، وعندما يجلس أوتول، سواء على مقعد مرتفع أو منخفض أو على الأرض، يحرص على أن تكون جلسته غير معتدلة، وأن يبدو كمن ينكمش ويحاول ضم ذاته أحياناً، والغريب أن بيتر أوتول الذي كان مدخناً شرهاً هو الآخر، يدخن بالفعل طوال العرض، ولا تكاد يده تترك السيجارة، بينما تمسك اليد الأخرى بكأس يتناول منه بضع رشفات بشكل متقطع، وعلى الأرجح أن هذا الكأس يحتوي على الماء لا الخمر، لكن أوتول يظهر مدى الإدمان والتعلق بهذه الأمور المهلكة، وعدم قدرة النفس على التغلب على شيء تعشقه، وإن كان في هذا الشيء مصرعها ودمار حياتها.

وما يأتي به بيتر أوتول من أمور مضحكة، يكون ناتجاً عن مأساة شخصية، لصحافي مشهور في ميدانه، تعثر كثيراً في عمله، وتقلبت حياته الخاصة بين أربع زيجات، انتهى كل منها بالطلاق، بالإضافة إلى بعض العلاقات الغرامية الأخرى، وحديث أوتول عن النساء والزواج تحديداً في المسرحية من أكثر الأحاديث الساخرة جداً، فهو لم يجد من النساء سوى التأنيب المستمر واللوم والتقريع، والنكد والغيرة والطمع في الأموال، والعشاء الذي عليه أن يسخنه ويعده لنفسه بعد أن يعود إلى البيت، كما أنه يسخر من تلك الفكرة الملحة الأبدية لدى النساء، وهي الرغبة في الاستقرار، ويفسرها بطريقة مضحكة، لكنها قد تبدو حزينة وبائسة أيضاً، وبشكل عام يجيد بيتر أوتول التأكيد على أن جيفري برنارد ليس بخير فعلاً، من خلال حركته وتلك النظرة الشاردة التي تعقب الضحك والتنهدات أحياناً، أما عندما يتكلم هذا الممثل العبقري، ويبدأ في استخدام صوته، فإنه يبدو بحق سيداً على خشبة المسرح، رغم أن طبيعة العرض لا تسمح بالارتفاعات الصوتية القوية، وإلقاء المقاطع الخطابية، إلا أنه يبهر المتلقي عندما يستمع إلى ذلك الصوت المهيب، ويلاحظ قدرته على التحكم التام في طبقاته، واستخدامه كشيء طيع يلونه كيفما يشاء، ولا يمكن القول إنه يفعل ذلك بغرور وتكبر، لكنه يفعله بثقة هائلة لا يخجل من إظهارها، ويبدو ذلك حتى من قبل أن يبدأ في الكلام في بداية المسرحية، عندما يسعل سعلة طويلة تثير ضحك الجمهور، بسبب طريقة تنغيمه وتلحينه لتلك السعلة، إذا جاز التعبير، وتظل قدرته العجيبة على التحدث بصوت منخفض، تثير الدهشة والتساؤل، كيف يصنع ذلك الصوت الضعيف ويجعل له ذلك التأثير القوي. 

 

*كاتبة مصرية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي