بلا عنوان تحديداً

2021-12-22

شهلا العجيلي

تحرك القطار في موعده تماماً، لم أكن أصدق ما يحدث، فمنذ وصولي إلى العاصمة والمفاجآت لا تكف عن مواجهتي! دخلت الحدود بكل سلاسة، ضباط الأمن كانوا مهذبين، وقد ختموا الجوازات سريعاً وبلا ذلك التدقيق المريب والنظرات الفاحصة المفزعة، صحيح أنني كنت قد استوثقت من وضعي الأمني في دوائر المخابرات، قبل أن أغامر بالقدوم إلى البلد، لكن يبقى ذلك الخوف من أي تقرير كيدي، أو تفسير مُغرض لعبارة قالها المواطن يوماً ما، كلمة تأفف أو سخرية عابرة، ذلك القلق قد يتحول إلى هلع عند سماع قصص من أوضاعهم تشبه وضعي: غادروا البلاد وقت الحرب، بلا أوراق رسمية غالباً، والآن يريدون العودة بعد أن انتهت الحرب إلى موطنهم وبيوتهم وذويهم وأملاكهم، لقد قيل لنا إن الأمر ليس بهذه البساطة، فالخروج من البلد ليس كدخولها، وبعد عشر سنوات ظهر متحكمون جدد، وتجار جدد، وعسكر جدد، وقبضايات جدد، ولصوص جدد…

ما يهم الآن أننا ركبنا القطار السريع من العاصمة باتجاه مدينتي، قطار جديد يشبه ذلك الذي سيرته الحكومة قبل الحرب، لكنه أحدث، كل شيء يلمع، جديد ونظيف، المقاعد وثيرة واسعة، وتجهيزات مآخذ الأجهزة الإلكترونية متوافرة…

دفعت أكثر فحصلت على مقعد منفرد، الناس هادئون رائقون، ولم تفارقهم أناقتهم الأصيلة التي أعرفها في ناس بلادي، وكأن عشر سنوات من الحرب لم تترك أثراً. أعرف أنني في عربة الدرجة الأولى، لكن هذا لا يعني أن ركابها من الأثرياء، في النهاية نحن في قطار الحكومة الذي يركبه الجميع. مررنا بالبساتين ذات الخضرة الساحرة وكان الجلنار منثوراً على الأغصان، وسيصير بعد أشهر رماناً شهياً كرمان الجنة، وحدثت نفسي بأنه لو مرت الزيارة على خير سأعود إلى العاصمة في موسم الرمان، وأقضي أياماً أرتاد فيها شوارعها العتيقة وأسواقها المزدحمة بالمطاعم وببياعي الكوكتيلات والعصير، وأشرب عصير الرمان مع شطيرة الجبن حتى أرتوي وأشبع من خير هذه البلاد الكريمة. مضينا مارين بعمائر خربة، بنايات حديثة أثر القصف بادٍ على واجهاتها، إحداها هبط على الأرض مثل طائر رخ هوى، لكن احتفظ بهامته متماسكة، والأخرى واجهتها مثقبة كما يبدو بطلقات رشاش، لا بأس، لا يمكن محو أثر الحرب بعجالة، لكن المهم أن نمضي بعزم في استعادة الحياة، كما يفعل هذا القطار، الذي سيقطع مسافات الساعات الست إلى مدينتي بثلاث ساعات ونصف كما قيل لي.

جاءت المضيفة لتسألنا عن الوجبة المرغوبة، كانت أنيقة في اليونيفورم الأحمر، كأنها خارجة من مجلة أزياء، لفتني قماش لباسها غير الرخيص، مما لم نعتده حتى في مضيفات الخطوط الجوية قبل الحرب، بشرتها معتنى بها تدل على وعي ووفرة، أظافرها نظيفة مقلمة بطلاء لؤلؤي، أسنانها بيضاء مقومة، رائحتها مسك، ألهاني التأمل في تفاصيلها عن الوجبة، حتى نبهتني، فطلبت فطائر السبانخ والجبن مع عصير الليمون، دونت الطلب على الآيباد الصغير في يدها، وأنا أقول في نفسي نعم: الحرب تصنع المعجزات.

في الحقيقة، واعتباراً من هذه اللحظة سيكون الطريق كله أليفاً تلتئم بمشاهده سنوات الغياب، ندخل في نفق، ونمضي إلى بادية، ثم مناطق خضراء، يتوقف القطار في محطة قبل مدينة رئيسية، فأرى من بعيد ساعتها الشهيرة ما تزال منتصبة، ثم نتابع قليلاً مسيرنا بين ضواحي سكنية جديدة ما زالت تحت البناء، لا أعتقد أنها كانت من قبل، فقد سافرت كثيراً كثيراً في هذه الطريق ذاتها. نتوقف عند محطة رئيسة قبل مدينة أخرى فأرى من بعيد نواعيرها الشهيرة ما تزال تدور وتدور… الركاب يزيدون من دهشتي، صامتون يحدقون في الموبايلات أو شاشات الآيباد، صبية تمسك كتاباً وتبدو مستغرقة، في معصمها ساعة آبل بيضاء. عادت المضيفة وأخذت بقايا طعامي، وسألتني إن كنت أريد غلق الستارة، فطلبت أن أبقيها مفتوحة… وصلنا إلى محطة المدينة الكبيرة التي عشت فيها شطراً من حياتي، أيام دراستي الجامعية، خفق قلبي وبدأ القطار يخفف من سرعته، وتتإلى مشاهد خراب كبير، كأن زلزالاً ضرب هذه البقعة التي نحن فيها، الأبنية محترقة، والأرض سوداء، الدغل الأخضر الذي يفترض أن يكون هنا لم يعد، دلت عليه جذوع يابسة، يبدو أنها اشتعلت طويلا بالنار، وليس ثمة محاولات من الطبيعة للبدء من جديد، فلا إشارة خضراء واحدة. جعلني ذلك أنكر الوداعة التي عشت فيها منذ بداية الرحلة، وأردت أن نغادر سريعاً، بقي أقل القليل إلى المحطة التالية حيث مدينتي، ربما ثلاثون دقيقة أو أقل سيطل النهر العظيم الذي ظل يحيط بمدينتي كتميمة منذ آلاف السنين، سأصل إلى البيت الذي ظل صامداً، رغم قصف القذائف والصواريخ، ونهب اللصوص والعسكر والميليشيات. في الحقيقة هو لم يصمد تماماً، لكن بالنسبة لما تعرض له يعد مثالاً في الصمود، لقد سقطت عليه قذيفة صاروخ ثقيلة واستقرت على السطح، وبقدرة قادر لم تنفجر!

كنت قد أرسلت مالاً لقريب لي قام بإصلاح أضراره في غيابي، أرسل لي صوراً بعد القصف ثم بعد الترميم، فكانت النتيجة مرضية بالنسبة لي. أفكر غداً في أن أذهب إلى المقبرة منذ الصباح الباكر، فأزور قبر شقيقي الذي قتل في الحرب، وقبر أمي وقبر أبي لقد ماتا قبل الحرب بقليل.. أطل النهر حقاً مع العصر، أزرق بانعكاس ذهبي، كما عرفته في مثل ذلك الوقت من السنة خلال أربعين عاماً من حياتي الفائتة، وبدأت دموعي تنسكب ولم أعطلها، تحولت نشيجاً، وأعرف أنني لو نظرت في المرآة لوجدت وجهي أحمر محتقناً، فجسدي حار يغلي، ونفسي تود لو أفتح نافذة القطار الواسعة فأشم رائحة الأرض الطيبة والماء النمير! لا شك في أننا سندخل تحت قنطرة الذهب كما كنا نسميها لننتقل إلى منعرجات التلال، قبل أن نصل المحطة وحقاً فعلنا. ابنة عمي ستكون بانتظاري مع ولدها الذي صار شاباً الآن، كانت طوال الوقت تؤلمني فكرة أنني غدوت بحاجة لمساعد أو دليل في بلدي، وحارتي وبيتي، يرشدني إلى كيفية إيصال آمبيرات الكهرباء والحصول على الماء، والمشي في الشوارع، وينصحني بالكلام مع هذا وتجنب ذاك.

بدأت أتحرك لأتناول أشيائي من صندوق الأمتعة أعلاي… مرت المضيفة تتابع الركاب هادئين في مقاعدهم، طلبت منها المساعدة، فقالت ما يزال الوقت مبكراً للوصول، قلت أريد أن أكون أول من ينزل، فأردفت لا بأس بعد ثلاثين دقيقة إضافية. عدت إلى مكاني، وأنا أعاود حساب الوقت، حتى أقبلنا، حسب ذاكرتي، على مكان يفترض أن يكون بداية المدينة التي ستقود بعد ثلاث دقائق إلى محطة القطار، فهنا كان تمثال فلكي المدينة القديم والحديقة الفريدة المقامة حوله، هكذا قدرت، لكننا نمر بأرض بلقع، يمضي القطار فيها بلا هوادة، نحو ما كان أحياء متطرفة وبساتين، ثم ستكون المقبرة، وبعدها أضرحة الأولياء، والمسجد القديم، وهذا ما كنت متيقنة منه تماماً بذاكرتي وبقلبي وبخبرتي، أحفظه مثل اسمي، مثل بسم الله الرحمن الرحيم… لكن ذلك كله لم يظهر! في البداية فكرت أنهم ربما غيروا المحطة، لكن حين أدركت عزم القطار وسرعته في المضي لمكان آخر، اضطربت فعلاً وأردت لأي قوة أن توقف القطار هنا، وسارعت إلى المضيفة وجدتها في العربة التالية، أمسكتها من ذراعها وكأن بيدها إيقاف القاطرة، فالتفتت إلي مذعورة ، قلت لها هنا المحطة، محطة مدينتي، لماذا لم ننزل؟ صرخت في وجهي: قلت لك سنصل بعد قليل، سأبلغك حينما نقترب. عدت لأجرها من ذراعها: هنا عند النهر مدينتي، يجب أن نتوقف هنا..

وكانت بي رغبة لأقتحم غرفة القيادة وأجبر السائق على الوقوف، وهي تصيح بي: أي مدينة في هذه البرية! لا يوجد مدينة هنا، لا حجر ولا بشر.. ولم أفلتها حتى اجتمع الناس حولنا، ووجدتني منهارة وأصرخ، وهي قد هربت مني تعدل من هندامها، واقترب رجل مسن قادني من يدي، فمشيت معه مستسلمة، ربما هو بعمر والدي رحمه الله أو أقل بقليل، يرتدي لباس مدينتي التقليدي، ثوباً خفيفاً وفوقه فروة سحلت من إحدى كتفيه نتيجة الحركة، قلت له باكية: يا عم لماذا لم ننزل هنا في المدينة؟

أجلسني في مقعدي:

– صل عالنبي يا عمي!

– اللهم صل على سيدنا محمد.

– من أين أنت؟

– من هنا، من هذه المدينة على النهر.

– كما ترين يا بنتي لا يوجد هنا سوى أراض شاسعة، لا مدينة ولا من هم يحزنون.

– لكنك من هنا أيضاً، أنت مثل الذين كانوا هنا.

نظر في عيني بشفقة، وغطاني بفروته، وظل واقفاً يتمتم فوق رأسي، والقطار يمضي…

روائية من سوريا







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي