أليساندرو باريكو: في ليل الفندق لا يلتقي إلا الغرباء!

2021-12-09

حسن داوود

ثلاث قصص يضمّها كتاب أليساندرو باريكو الصغير، أو هي ثلاثة لقاءات يحدث كل منها بين شخصيّتين تلتقيان بالصدفة. مكان الالتقاء هو الفندق، ذاك الذي أعدّ أصلا لاستقبال الخارجين من كنفهم الاجتماعي أو الحميمي. أما الوقت الذي يُجري فيه باريكو تلك اللقاءات الثلاثة فهو الليل في ساعاته الأكثر حلكة. ذلك يتيح للشخصيتين الملتقيتين أن تكونا بمفردهما، وجها لوجه، وإن دون سابق معرفة. الحوار الذي سيجري بينهما، ذاك الذي يبدأ بلا معنى، كأن تقول المرأةُ الداخلة للتوّ للرجلِ الذي رأته جالسا بمفرده في زاوية من بهو الفندق، في الساعة الثانية ليلا: «كان يبدو أنها ستمطر، لكن ذلك لم يحدث» سيستمر دون توقّف ذاهبا بغرابته حتى نهاية القصة، مغرقا المرأة بالغموض في نظر الرجل. أما هو، الرجل العادي، المشتغل بصناعة الموازين لتعلّقه الشديد والمملّ بالدقّة، فسيستحوذ على مفاجأة الخاتمة بكاملها، إذ لم نكن نتوقّع أن رجلا مثله كان يخفي مسدّسا في جيب معطفه، وأن الشرطة ستأتي لتعتقله فيما حواره مع المرأة لم ينهِ تعارفهما الطويل بعد.

وهذا ما انتهت إليه القصة الثانية حيث ينقلب الشاب العنيف والفتاة الجميلة ذات الستة عشر عاما عن دوريهما اللذين تشكّلا في ذهن حارس الفندق. الفتاة التي راح ذاك الحارس يحرّضها على الهروب من ذلك الشاب، لأنها جميلة ورائعة حسبه، تتكشف في النهاية عن حياة تخبّطت في مستنقع تجارب. شكْل الفتاة الموحي بالبراءة ليس وحده ما يصنع مفاجأة الخاتمة، بل أيضا كل ما قالته في حوارها مع الرجل حارس الفندق، حتى إنها امتثلت لنصح هذا الأخير بالهرب من مرافقها العنيف، مصاحَبة بحارس الفندق المؤدي دور الراعي الطيّب، رغم أنه قال للفتاة، في الحوار بينهما، إنه سبق له أن قتل رجلا.

في الليل أيضا يجري الحوار بين المرأة الخمسينية والفتى ابن الثالثة عشرة (في القصة الثالثة). كانت قيادة الشرطة قد كلّفتها البقاء إلى جانب الصبي في الفندق ذي الموكيت القذر، والتدفئة السيّئة، ولوحات البازل البشعة المعلّقة على الجدران. فكّرت المرأة أن الفتى الذي تعرّض من ساعات إلى ما تعرّض له يجب ألا يوضع في مكان سيئ مثل هذا. وهي لذلك أخرجته من الفندق لتبدأ رحلة إيصاله إلى مكان لائق. كل ما يحدث في الطريق مخالف لما ينبغي أن يكون عليه: سيارتها الهوندا القديمة، المتسخة من الداخل والخارج، التي هي من أملاك إدارة الشرطة، وهي مزودة بذلك الضوء الذي يوضع على سطحها كي تُفتح لها الطرق، والمطارَدة من قبل سيارة شرطة أخرى في ذلك الليل؛ ثم هي نفسها المرأة، الشرطية الأقرب، كما توصف، إلى أن تكون أمّاً لهذا الصبي الذي لا تعرفه. وفوق ذلك اختلاط الكلام العادي، بينها وبين الصبي، الذي سيتخلّله وصف تفصيلي للنيران التي أحرقت بيته وأشعلت أمّه وأباه مثلما تشتعل شمعتان وتذوبان.

هذه القصة الثالثة، والأخيرة، تتسع من داخلها فتبدو حاملة لوقائع رواية كاملة، رغم عدد صفحاتها القليل. ذاك أنها تتكشّف أو تفيض دون توقّف، فلا يكاد ينتهي ما يصدم فيها حتى تمثل الصدمةُ التالية. كأنها، تلك القصة، رواية لا تستريح، أو كأن كاتبها يرى أن سكونها، الذي يأتي به التكرار والوصف في العادة، سيوقفها أو يعطّلها على غرار ما تنطفئ آلة وتتوقّف عن عملها. لذلك كان على المتحاورين جميعهم، في القصص الثلاث، أن يظلوا مفاجئين مَن يقرأهم، على الدوام. وكل شيء محمول بالحوار الذي يرفده، في أحيان قليلة، التدخّل السردي الذي لن يغيب عنه الحوار، هنا أيضا.

يقول باريكو، في تقديمه السريع لقصصه، إنها تحكي عن شخصين يلتقيان ثلاث مرّات، أي أن الشخصيات هي نفسها في القصص الثلاث. وهذا ما يحاول قارئ الرواية، بعجز لا يكل، عن التحقّق منه، ساعيا إلى تقريب الشخصيات من بعضها بعضا، محاولا لصق إحداها بأخرى علّه يقتنع بأن مَن قرأه، أو قرأها، هو نفسه، أو هي نفسها، هنا. لكن ذلك يظلّ عصيا على الجمع، إذ لا تكفي إشارات التشابه بين الشخصيات حتى تصنع من اثنين، أو من ثلاثة، شخصا واحدا. لا يكفي حضور المسدس في اثنتين من الحكايات الثلاث، حتى يكون القاتل واحدا، كما أن حارسي الفندقين لا يُحتمل أن يكونا شخصا واحدا. يعلّل باريكو قوله ذلك، بإضافته أن كل لقاء لشخصيتيه المزعومتين يحدث لمرّة واحدة أخيرة، وهذا ما يعقّد ما كان ظنّه قارئ الكتاب أنه قد فهمه من القصص. لكن دون تلك الإضافة عن ردّ الشخصيات إلى أصول واحدة، كان الكتاب قادرا على أن يكون مكتملا بذاته، ومدهشا لقارئه. كما أن القول الآخر الذي أورده الكاتب في مقدمته عن أن القصص الثلاث تكملة لكتاب سابق له هو «مستر غوين» (وقد سبقت تغطيته في هذه الصفحة) يحتاج إلى تفكّر كثير ليهتدي قارئ العملين إلى إيجاد ما يجمع بينهما. ربما كان ما يعنيه الكاتب تلك الفكرة التي يمكن أن تنطبق على كل عمل قصصي أو روائي وهي: «لسنا تلك الشخصية حسب، نحن الغابة التي نسير فيها، والشرير الذي يخدعها، الأصوات المحيطة بها، كل الأشخاص الذين يمرّون، لون الأشياء، الضوضاء».

كتاب أليساندرو باريكو «ثلاث مرات في الفجر» صدر عن «دار الجمل» بترجمة أماني فوزي حبشي في 120 صفحة- 2021.

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي