صورة متسخة… صورة مقدسة

2021-11-12

كريستيان بوبان روائي وشاعر فرنسيكريستيان بوبان *| ترجمة: عاطف محمد عبد المجيد

في القرن الثالث عشر، كان هناك التجار، القساوسة، والجنود. أما في القرن العشرين، فلم يعد هناك سوى التجار، وهم في متاجرهم كالقساوسة في كنائسهم، وفي مصانعهم كالجنود في ثكناتهم، يتدفقون في العالم بتأثير ونفوذ صورهم، نجد صورهم على الجدران، على الشاشات، وفي الجرائد. الصورة هي بخورهم، وهي سيفهم.
كان القرن الثالث عشر يتحدث إلى القلب، لم يكن ضروريّا بالنسبة له أن يتحدث بصوت عالٍ حتى يجد من يُصغي إليه، بالكاد تصنع أناشيد العصور الوسطى ضجيجا أكثر من الذي يُحْدثه الجليد حين يتساقط بعضه على بعضه. القرن العشرون يخاطب العين، ولأن النظر من الحواس الأكثر تقلّبا، كان عليه أن يصيح، أن يصرخ مع الأضواء الشديدة، مع الألوان المُصِمّة، مع الصور المثبطة للهمم من فرط ما كانت مفرحة، مع الصور المتسخة من فرط ما كانت نظيفة، مُفرّغة من أي ظلٍّ كما من أي حزن. مع الصور المفرحة التي لا تُعزّى. القرن العشرون يتحدث من أجل أن يبيع، ونتيجة لهذا كان عليه أن يمدح العين ـ يمدحها ويُغشيها في الوقت نفسه. يبهرها، كان لدى القرن الثالث عشر القليل جدّا ليبيعه ـ الله أغلى من كل شيء، لم يكن لديه سوى سعر السوق لكُبّة من الجليد المتساقطةعلى آلاف الكُبب الجليدية الأخرى.

٭ ٭ ٭

كانت الصورة في الصحيفة.. يمكنكم أن تروها وأنتم تقرأون المقال، ليس قبل ذلك: نحن لا نلمس العالم بأعيننا، بل بألسنتنا. وماذا كان يقول المقال؟ كان يقول شيئا عن نهاية القرن العشرين في بلد كما في كل مكان. في كل مكان تكون النقود، في كل مكان هناك العالم الذي دمرته النقود. في ذلك البلد كما في كل مكان، ربما الأقل خرابا مما سواه، كان الصحافي يصف يوم عائلة من الشحاذين ـ يوم عمل لها. كانوا يسكنون حيّا فقيرا في مدينة مترامية الأطراف، إحدى تلك المدن ـ العالم، عشرون، ثلاثون مليون من السكان، إحدى تلك المدن المشبعة بالبضائع والأرواح، بالدماء، بالذهب، وبالوحل. كنا نرى أفراد تلك العائلة يسيرون عشرات الكيلومترات، يذهبون من حي محروم إلى آخر ثري دافعين أمامهم عربة نقل مليئة، بالتتابع، بمحتوى صناديق القمامة. إنها الكلمة التي لفتت انتباهكم. إنها الكلمة التي تعطيكم لتروا: الكلمة «ما يُدَوَّر». هذه الكلمة، تشير في أول الأمر إلى محتوى صناديق القمامة، وشيئا فشيئا تنتقل عدواها إلى هؤلاء الذين كانوا يجدون هناك غذاءهم. في ذلك البلد، كان المقال يقول إن الصحافيين، رجال البوليس، وحتى علماء الاجتماع، انتهوا إلى الإشارة إلى الشحاذين كأنهم «ما يُدَوَّر». ولأن الكلمة لا تأتي بمفردها أبدا، كنا نتحدث عما يخص عمليات رجال البوليس ضد هؤلاء الأشباح وعرباتهم، عن فوائد «التنظيف الاجتماعي». قسوة اللسان، القسوة المرعبة للسان وللقانون: ماذا يفعل، في الواقع، أشخاص يُطلق عليهم «ما يُدَوّر» إلا «تنظيف» العالم من حضورهم غير اللائق، الملائم قليلًا للنقود، للبهجة المعقّمة للنقود؟

٭ ٭ ٭

قصصتم الصورة من الصحيفة. صورة جميلة لعائلة ـ الأب والأم في الصف الأول، يحيط بهم عشرة أطفال وجوههم نضرة بشكل غريب، ومتفتحة. لمَ تحتفظون بهذه الصورة، لا تعرفون. للحفاظ عليها من الاختفاء داخل صحيفة زائلة، لإنقاذها من نسيان اليوم التالي. كي تحتفظوا بهذه الوجوه المبتسمة بالقرب منكم، بإصرار هؤلاء الحضور المزينين بالروائح. بعد انتهاء عدة أيام كان شيئا ما قد حدث. بعد انتهاء عدة أيام لاحظتم أخيرا الملاك خلف مجموعة الأطفال، المقنّع بعض الشيء بهم، الخفي دون شك عن المصوِّر. تقريبا كان يجب إغماض الأعين، تدقيق النظر حتى يُرى، في ظل الأطفال. لم يبصر الغرض. هو في قمة انشغاله، ينحني على صندوق قمامة تم نبشه، ناظرا إذا ما كنا مصادفة، أو اتفاقا، لا نستطيع استعادة شيء، فضلات بالأحرى. الآخر، اكتشفتموه في الوقت نفسه. يبدو للوهلة الأولى مختفيا تقريبا، تمت تنحيته إلى الصف الأخير، بين هؤلاء البعيدين المضببين في الصورة، ثلاث خطوات إلى الوراء، لا يبالي بشيء، يقتفي أثر الأطفال، العربة والملاك ـ الآخر، كلب توبي وفرحته وهو يسير، هذه الفرحة المجنونة ـ عكس بهجة البيع والشراء.

٭ ٭ ٭

لحظة ذاك، أدركتم أنكم أمام أي شيء كنتم. وأنتم ترون فرحة الكلب الأجرب هذه، عرفتم أنكم أمام ما نسميه صورة مقدسة.

٭ روائي وشاعر فرنسي، ولد في إبريل/نيسان عام 1951. يكتب الرواية والمقال وقصيدة النثر واليوميات، له العديد من الأعمال الإبداعية، وقد حصل على جوائز عديدة رفيعة المستوى.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي