طنجة في ساعة الكوكتيل.. في ضيافة بول بولز

2021-10-29

 ستيوارت سكار

ترجمة وتقديم/ عبد المنعم الشنتوف

يشكل هذا النص الذي تقدم ترجمته العربية عن الأصل الإنكليزي، استعادة لتفاصيل دالة لها تعلق بمقام الكاتب الأمريكي بول بولز في المغرب، وتخصيصا طنجة التي امتد ما بين عام 1947 ورحيله منها عام 1999.

تبدو هذه الاستعادة مدموغة بطابع الشهادة، وتروم في المقام الأول التعبير عن بعض تمثيلات حضور رموز جيل البيتز الأمريكي في مدينة طنجة، وتخصيصا بول بولز ووليام بوروز وتينيسي ويليامز.

وبصرف النظر عن المسافة النقدية الواضحة، التي يفصح عنها الكاتب ستيوارت سكار٭٭ حيال هذا الحضور، إلا ان ما تضمنته هذه الشهادة يمثل بعدا آخر مسكوتا عنه، لم يتم التعرض له في الأعمال والسير التي اهتمت بحضور بول بولز وجيل البيتز في المغرب.

النص:

كنت في عام 1962 و1963 في السادسة والعشرين من عمري، وكنت أقيم في العاصمة المغربية الرباط بتأثير انشغالي بالقيام بأبحاث لها تعلق بأطروحتي الجامعية لنيل الدكتوراه. وكنت أتردد على طنجة بين الفينة والأخرى لأنجز حوارات مع بعض قيادات الحركة الوطنية المغربية، ولقاء صديقي تشارلز كالاغر، الذي كان حينها مراسلا لقطاع الخدمات التابع للجامعة الأمريكية.

ومباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبح كالاغر مستشارا للسفارة الأمريكية في اليابان، وكان يتحدث اليابانية بطلاقة، علاوة على الماليزية والعربية. وقد تمكن من اقتناء أفخر وأثمن مجموعة خاصة للفن الصيني والياباني. وكان بالإضافة إلى ذلك مالكا لثروة تتمثل في سيارة جاغوار وشقتين في البناية التي كان يقيم فيها بول بولز وزوجته جين في طنجة. وكنت أقيم أثناء زياراتي لمدينة البوغاز في إحدى هاتين الشقتين، وكما كان متوقعا فقد أصبح تشارلز كالاغر صديقا لجاريه الشهيرين.

وفي كل الأماسي وحين تحين الساعة السادسة كان بول بولز يستضيف في ما يشبه طقسا متكررا بعض الأصدقاء لحفلة كوكتيل. وكان تشارلز حاضرا باستمرار، وكان يحرص على اصطحابي إلى هذه السهرات كي ألتقي ببعض الشخصيات من كل الأطياف.. وكان أمريكيون وأوروبيون مقيمون في المغرب وسائقو سيارات أجرة وطفيليون يملاؤن حياة بول بولز، الذي كان دائما مفرطا في أناقته.

كانت زوجته جين تبدو كما لو أنها تروم تقليد النجمة السينمائية الأمريكية لويز بروك التي كانت تشبهها إلى حد ما، لم يكن في مقدوري التملص من هذه اللقاءات، لكنني كنت أجد دائما بعض الأعذار كي أنسحب بعد خمس عشرة أو عشرين دقيقة، كي يتاح لي أن اتسكع بسعادة بالغة بين أزقة طنجة واكتشف علبها الليلية. وكان ذلك بالنسبة إليّ أكثر أهمية بآلاف المرات من سهرات الكوكتيل هذه. لم أكن موجودا والحالة هذه حين قدوم «النجوم» أقصد تينيسي وليامز ووليام بوروز وترومان كابوت.

بيد أن تشارلز الذي تمكن من معرفتهم بشكل جيد كان يروي لي بالتفصيل الممل مغامراتهم وحكايات سكرهم صحبة شبان صغار من طنجة، لكنني كنت أتمثل وأتصور مواقفهم بيسر، خصوصا بعد أن اصطحبت معي ذات مرة إلى واحدة من هذه الأماسي صديقا شابا من جامعة برينستون، كانت له بنية جسدية تراوح بين روبير ريدفور وجون كينيدي. وما أن تجاوزنا عتبة البيت حتى اتجهت إليه كل الأنظار، وتوقفت الأحاديث وسارع العشرات من الحضور صوبه بقصد لفت انتباهه، لم يكن الصديق مثليا جنسيا بيد أن السهرة راقت له كثيرا.

كانت ثمة في طنجة في تلك الفترة حلقة صغيرة تسيرها وتهيمن عليها بورجوازية راقية، كان أبناؤها يتزوجون من النخبة التي تتوزعها مدن الرباط وفاس ومراكش وتطوان وأحيانا الدار البيضاء. وكانت إقاماتهم تشبه القصور وتقدم فيها أفخر وأندر الأطعمة المغربية، وبالفعل أتيح لي أن أتناول داخل منزل أحد مفتشي حزب الاستقلال في طنجة ألذ وأشهى طعام في حياتي وهو سمك القاروس التشيلي باللوز والزبيب.

كانت هذه البورجوازية تعيش في عزلة تامة عن باقي مكونات المجتمع، وكان كل من لا يمت إليها بصلة يجهل حتى وجودها. لكن هذه البورجوازية هي التي منحت للمدينة قوتها وألقها وقدرتها على الإغراء.

في الجانب الآخر من السلم الاجتماعي يوجد محترفو الدعارة، وفي غمرة فقر مدقع، وانتشار مهول للبطالة، يبيع شبان صغار أجسادهم مقابل دراهم معدودة.. لم يكن ثمة عنف وإنما شهوة عابرة مقابل حفنة من المال وقبلة وداع.

كانت ثمة فنادق مبثوثة على كورنيش طنجة يسمح أصحابها بتسلل هؤلاء الأولاد، دون أن يحدثوا لغطا أو فوضى، وكانت ثمة علب ومراقص ليلية مكتظة بمحترفي الدعارة بحثا عن زبون. كان الرجال يرقصون متلاصقين وهم مدركون بأنهم سينتهون لا محالة فوق الفراش قبيل الفجر.

كانت الشرطة تغض الطرف وتقتصر على منع نشاط مرقص «بوي كافي» بمشاهده واستعراضاته العارية التي كانت تنتهك كل الحدود والأعراف حتى بالنسبة لطنجة.

كان الهيبيون الذين جاءوا إلى طنجة بتأثير إغراء الكيف يعتقدون أنهم وصلوا إلى بلاد الأحلام. كانوا ينحدرون في غالبيتهم من نيويورك. وما أن يغادروا الباخرة اليوغوسلافية حتى يجري التنكيل بهم، ولأنهم اعتادوا استهلاك عشب الماريجوانا المتاح في الولايات المتحدة الأمريكية والأخف تاثيراً، فإنهم سرعان ما يسقطون مرضى، أو يشرعون في الهلوسة والهذيان حين استهلاكهم للحشيش للمرة الأولى. بيد أن ذلك لم يشكل مانعا بالنسبة لهم، لأن الأساس يكمن في لذة انتهاك الحدود والمحرمات.

كان العديد من الشباب المغاربة يفلحون في استشراف نوع من الاكتفاء المالي بإشباع رغبات ونزوات الأجانب، بل إن البعض منهم أفلح في تحقيق مكاسب عظيمة حين يتبناه أجنبي مقيم، رجلا كان أو امرأة، أو يجعل منه عشيقا له. تمكن البعض الآخر من التخلص من شبح الفقر بمرافقتهم لعشاقهم، أو عشيقاتهم إلى أوروبا أو أمريكا.

وقبل أن ينتشر الإرهاب العالمي كان من الميسور الحصول على تأشيرة تخول لك حق الدخول إلى العالم القديم.. والحال أنه لم يتحقق توثيق حكايات هولاء الشبان. لكنني أعرف عدداً وفيراً منهم عمدوا بمجرد وصولهم إلى أوروبا أو أمريكا إلى هجر عشاقهم والارتباط بنساء أخريات، والعثور على عمل وتأسيس أسرة، بل إن بعضا منهم لم يتردد في أن يفضي بتفاصيل هذه المغامرات إلى زوجاتهم.

وكي نعود إلى الحديث عن شقة بول بولز، فإن الأحاديث غالبا ما كانت تجري بين الأمريكيين، أو الأوروبيين المقيمين، أو حين تسمح الفرصة مع سائق سيارة أجرة أو فنان محلي، أو كاتب ارتبط معه بولز بصداقة وأفلح في ضمه إلى حلقته.

كان بولز يحمل أكثرهم ذكاء على أن يروي له سيرة حياته أو أحلامه وكوابيسه ويترجمها إلى اللغة الإنكليزية، ثم يقوم بتقديمهم إلى الساحة الأدبية، ونمثل لذلك بالكاتب محمد شكري.. وقد أثمر هذا التعاون مع هؤلاء الرواة المغاربة أعمالا أدبية رائعة. لكن هذه الفاعلية الإبداعية لم تكن تعلن عن حضورها في ساعة الكوكتيل، وكانت تكتفي بأن تشكل ذريعة لتأثيث ساعات الفراغ بين الأوروبيين والأمريكيين المقيمين، وتسلية سائقي سيارات الأجرة، كي يستمروا في الحضور.

أما في ما يخصني وأقولها بكل صدق فإني كنت أؤثر على سهرة الكوكتيل هذه صخب أجواء أزقة طنجة وعلبها الليلية.

٭٭ ستيوارت سكار مستعرب أمريكي عمل أستاذا محاضراً في معهد الدراسات الشرق أوسطية في كوليج بروكلين التابع لجامعة نيويورك.. ويقيم حاليا في العاصمة المغربية الرباط.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي