سيرجي باراجانوف.. رائد فن الكولاج السينمائي

2021-10-17

سيرجي باراجانوف

إنتصار الغريب

يعرف سيرجي باراجانوف بأنه أحد أعظم أساتذة السينما برائعتيه، ظلال الأجداد المنسيين (1964) ولون الرمان (1969)، اللتين جعلتاه يقف إلى مصاف فيليني وغودار وتاركوفسكي. عانى صنوفا من التهميش والإقصاء والنفي والاتهامات الباطلة والسجن من السلطات التي كانت تحكم الاتحاد السوفيتي آنذاك، مخرج عبقري قضى معظم عمره في غيابات السجون، حتى أصبح النداء لتحريره رمزا لرفضه. أفلامه مطرقة تسحق الظلم والاستبداد وتحمي إرث الأقليات ومازال العالم يكرمه حتى بعد رحيله.

سينما سيرجي

ولد سيرجي باراجانوف عام 1924 لأبوين أرمنيين ثريين في تبليسي، جورجيا، التي كانت آنذاك جزءًا من الاتحاد السوفيتي. تخرج من أقدم مدرسة للسينما في العالم، معهد جيراسيموف للتصوير السينمائي (V.G.I.K) في موسكو.

 درس الإخراج السينمائي تحت إشراف المخرج الروسي إيغور سافتشينكو الشهير بفيلمه «غارمون» 1930 ومن ثم تحت إشراف «الكساندر دوفجنكو» مخرج «الأرض» 1930 الفيلم الذي غرس البذرة الأولى للواقعية الشعرية في السينما السوفيتية آنذاك، امتلك باراجانوف العديد من المواهب إلى جانب الإخراج السينمائي الفذ مثل الفن التشكيلي والعزف والغناء الموسيقي والكولاج.

ظلال الأجداد المنسيين

ابتكر باراجانوف تحفته الأولى «ظلال الأجداد المنسيين»، في عام 1964 بأوكرانيا، استند الفيلم إلى كتاب للمؤلف الأوكراني ميخايلو كوتسيوبينسكي، كان الفيلم أول عمل رئيسي لباراجانوف وأكسبه شهرة دولية لاستخدامه الغني للأزياء والألوان والرمزية بكل أبعادها. يتميز الفيلم أيضًا بتصوير مفصل لثقافة الهوتسول الأوكرانية، وهي مجموعة عرقية تعيش في أجزاء من غرب أوكرانيا ورومانيا في بيئة جبال الكاربات القاسية بين أوروبا الشرقية والوسطى.

أظهر الفيلم التنافس الأسري الوحشي، الموسيقى والأزياء الثرية. أدرجته السلطات السوفيتية على القائمة السوداء لدعم فيلمه للمنشقين والقوميين الأوكرانيين، ما عرض للخطر جميع المشاريع الأخرى في أوكرانيا.

تم منعه أيضا من الانتهاء من فيلمه Kiev Frescoes) 1966)، الذي كان من المفترض أن يصور آثار الحرب العالمية الثانية في كييف.

انتقد باراجانوف حالة السينما السوفيتية والسلطات، خلال خطاب ألقاه في مينسك، بيلاروسيا، وحكم عليه بالسجن 5 سنوات في سجن أوكراني عام 1974. 

ملصقات السجن ومتحف باراجانوف

استغل فترات وجوده المتكررة في السجن ومنعه من صناعة الأفلام، إلى عمل ملصقات مبتكرة، بالإضافة إلى الرسومات وألعاب الورق والمركبات الصورية. ثم تحول لدراسة الفن المرئي، نجح في صنع حوالي 800 عمل فني، من خلال تجميع عدد من الصورالمتكاملة. استمر في صناعة الفن المرئي خلال فترة طويلة امتدت لخمسة عشر عاما تتسم برؤية جمالية خاصة، تعبر عن ردة فعله حول العالم المعاش.

بعد موجة من الاحتجاجات ضد سجن باراجانوف من قبل فنانين من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك فرانسوا تروفو ولويس بونويل وبيير باولو باسوليني ومايكل أنجلو أنطونيوني وصديقه المقرب والمتعاون ميخائيل فارتانوف، أيضا التماس مباشر من الشاعر لويس أراجون إلى الزعيم السوفيتي بريجنيف أخيرًا أطلق سراح باراجانوف من السجن عام 1977.

كان قد سجن لمدة ثلاث سنوات، ثم عاد إلى تبليسي، جورجيا، حيث سجن مرة أخرى عام 1982 لمدة عشرة أشهر. نظرًا لأنه مُنع من العمل في السينما منذ فيلمه لون الرمان. صب باراجانوف رؤيته الإبداعية في الفن التصويري والرسومات وألعاب الورق ومركبات الصور والدمى وحتى القبعات المستوحاة من شخصيات من الكتب والأفلام والروايات الشهيرة.

ومن أجل ابتكار الفن التصويري والتركيبات، كان باراجانوف يبحث كثيرًا في حاويات القمامة عن أشياء لدمجها في أعماله.

ومن دون راتب أو دخل ثابت، وجد باراجانوف طريقة للمثابرة والاستمرار في الإبداع، بغض النظر عن القيود والشدائد والاتهامات الباطلة التي لفقت ضده.

عاد باراجونوف للعمل أخيرًا بشغف لكن المرض لم يمهله طويلا، في عام 1983، تم سجنه مجددا، على الرغم من أن الحكم لم يستمر سوى عام واحد نجح في استكمال فيلمين آخرين، تفاقمت معاناته عندما قُتلت زوجته الأولى، وهي مسلمة من التتار تحولت إلى المسيحية الأرثوذكسية الشرقية من أجله، على يد أقاربها انتقاما على تغيير دينها إلا أنه استسلم أخيرا للسرطان، تم إدخاله إلى المستشفى في عام 1998 وتوفى بعدها بعام حيث عاش 66 عامًا فقط.

عند وفاته أرسلت مجموعة من صانعي الأفلام الإيطاليين البارزين برقية إلى موسكو، مفادها: «لقد فقد العالم ساحرًا». فنان يتميز بتصميمه الشرس في تحقيق رؤيته الفريدة تاركًا وراءه أروع الصور المرئية في القرن العشرين. يمكن رؤية مجموعة كبيرة من فنه البصري اليوم في متحف باراجانوف في يريفان، أرمينيا. 

بالنظر إلى ما قاله المخرج الفرنسي جان لوك غودار، أحد أكثر المعجبين بعمل سيرجي باراجانوف «في معبد السينما صور ونور وحقيقة، يتحول الإخراج إلى سلسة من صور الحزن والأمل والحب والجمال، كان سيرجي باراجانوف سيد ذلك المعبد». 

مخيلة تجريدية

ولكن بشكل عام، هو صانع أفلام لم ينل الكثير من التقدير، ونجح في صنع أحد أكثر الأفلام الغامضة في تاريخ السينما «لون الرمان»، لم يتبع أي قاعدة معروفة في صناعة الأفلام، ولم يدخل في قالب المخرجين الأسطوريين فقط من خلال إنجازاته الإخراجية ولكن من خلال فنه التصويري البصري، معتمدا على مخيلة تجريدية ثرية.

 تعتبر قصة حياته غير عادية مثل رؤاه الخيالية، ويبدو أن صراعاته الخيالية والشخصية ضد دولة قمعية بدت مستحيلة، التحديات التي لا يمكن التغلب عليها من قبل أبطاله. التهم الباطلة من قبل السلطات ردًا على آرائه السياسية المعارضة لم تقتل في داخله روح الإبداع.

أعماله

أعماله تتراوح من الأفلام الوثائقية إلى الحكايات الخيالية وملاحم الحرب الدعائية طوال الخمسينيات وأوائل الستينيات، الجزء الأكبر من سمعته يأتي من أربعة أفلام غير عادية صنعها بين عامي 1964 و1988، تبرأ باراجانوف نفسه من أعماله المبكرة.

لاحقا سعى باراجانوف إلى ابتكار أسلوب جديد من الإخراج وإظهار الإرث الثقافي الإثنوغرافي والروحي في البلدان التابعة التي تم قمعها بشكل كبير من قبل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية المتمركز في موسكو، مستثمرا خياله المناهض للواقعية ودمجه الرسم والشعر والرقص والفولكلور.

لون الرمان

انتقل باراجانوف إلى موطن أجداده، أرمينيا، من أجل العمل في مشروع جديد، بفيلمه الأكثر ابتكارًا وشهرة عام 1969 Color of Pomegranates أو لون الرمان. عن حياة «سايات نوفا» وهو مغن وشاعر وصاحب أعلى منزلة في التراث الموسيقي الأرمني.

لم يعرض الفيلم إلا في عام 1972 أي بعد ثلاث سنوات من إكماله، تم إنتاجه من دون موافقة المخرج، وعلى الرغم من نجاح الفيلم، فإن الرقباء السوفييت اعترضوا عليه وأعادوا قصه، ورفضت استوديوهات الأفلام السوفيتية جميع مشاريعه بعد ذلك الفيلم. عبر الخيال الفريد والمجرّد الذي امتاز به باراجانوف ابتكر صورًا من حياة سايات نوفا وقصائده.

يشبه لون الرمان مجموعة من اللوحات والإطارات المتناسقة، مستوحاة بعمق من المنمنمات التركية والإيرانية والأرمنية الموجودة في الكتب، فيلم تجريدي ومثير للذكريات، من أقواله حول الفيلم: «سايات نوفا يختلف عن الأفلام السابقة، عالم المنمنمات الروحانيات والشعر أشبه بديناميكية في السكون».

اللوحات الأيقونية

الفيلم يتألف من مقدمة أو استهلال (برولوج) وثمانية فصول وخاتمة. اختار باراجانوف مجموعة من اللوحات الأيقونية بدلاً من القصة التقليدية، مثل نسيج مليء بالصور والأحلام والأرابيسك والحياة الساكنة. يمتلئ الفيلم بالصور الغامضة الترابطية والأصوات التي لا تُنسى.

كان هذا الأسلوب بعيدًا عن الواقعية التي هيمنت على السينما السوفيتية في ذلك الوقت، ما دفع السلطات إلى حظر الفيلم. في وقت لاحق استنكرته الدولة وسجن عدة مرات لكونه ناقدًا وغير ملتزم بقوانين الرقابة آنذاك.

يصور الفيلم حياة الشاعر الأرمني سايات نوفا منذ طفولته وحتى وفاته. اهتم المخرج بجلب الغرابة والجمال إلى الأحداث اليومية الصغيرة، من خلال لوحة المرئيات، التباين والتصميم والتكوين، التناغم بين الألوان الجذابة، وجود الموسيقى الشعبية الأرمنية. في تعريف باراجانوف للفن، يجب تحويل «الحقيقة إلى حالة عاطفية»، نادرًا ما تكون الحقائق التي قدمها باراجانوف بالفيلم المذكور مبهجة، والموت حاضر دائمًا.

تمت دبلجة الفيلم إلى اللغة الروسية، احتضان الفيلم للثقافة الأرمنية والرمزية الدينية كان يهدد الوضع الراهن للنظام الشيوعي الروسي الصارم. 

مسرحية عاطفية

عجز صناع السينما عن تصوير الموت بالمعنى الروحي الحقيقي، باللجوء في كثير من الأحيان إلى الإثارة. بينما يحتوي لون الرمان على اثنين من أرقى صور الموت وأكثرها حساسية في السينما، الأولى، يتم استدعاء والدَي الشاعر المتوفين في ذاكرته كما لو كان مسرحية عاطفية مزينة بأوراق الذهب أبطالها الملائكة، يتم

عرض ذكرياتهم، مع تباين واضح بين التصوير السماوي الجميل للموتى والواقع البارد، ثم تهب عاصفة من الرياح، يظهر ريش أبيض نقي على الصور المبتسمة لوالديه، تصور حقيقة ألم الذاكرة التي تتميز بها سعة الموت، والثانية تتمثل في صور الحرب، السماء الزرقاء الصافية والعشب الأخضر، موكب من المحتفلين

بملابس ذات ألوان زاهية يلقون كرة ذهبية بمرح، أثناء عبورهم الشاشة، محاطة بأشكال ثابتة كما لو كانت مخطوطة من العصور الوسطى، تدخل شخصية ترتدي ملابس قاتمة إلى الإطار، وتطلق رصاصة من بندقية ذهبية.

من الواضح أنها دعامة مسرح تنفث دخانًا، ولكن بومضة، تحدث الفوضى، ويهتز توازن الصورة، بعد ذلك نرى جروحًا في الرجال بوضعيات مختلفة.

عالم متكامل

صنع باراجانوف عالماً متكاملاً غير عادي، عالم تتفشى فيه المعاناة، سواء في قصة راهب مكسور القلب قُتل في حرب، أو رجل مكروه لخياله الخصب أُرسل إلى السجن مرارا، الحياة القاسية، تظل مع المعاناة جميلة. تجنب باراجانوف السرد التقليدي للسيرة الذاتية وركز على التفاصيل المرئية والصوتية، راغبا تصوير العالم الذي يعيش فيه العشاق، العمارة الوطنية والفنون الشعبية والطبيعة والحياة اليومية، لعبت الموسيقى أيضا دورًا كبيرًا في مسيرة نجاح الفيلم.

كما أولى أهمية كبيرة للتصوير في المواقع التاريخية التي كانت مهمة في حياة سيات نوفا، مثل دير هاجبات، حيث عاش الشاعر راهبًا في سنواته الأخيرة. في النهاية باراجانوف شخصية غامضة ورائعة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي