مَطرٌ؛ بلندنَ..

2021-08-30

عدنان الصائغ

مَطرٌ؛ بلندنَ.. يَعْبُرُ المارّون ليلي، غيرَ ملتفتين للجرحِ الذي خلفَ الجروحِ، ينـزُّ من خمسين عاماً. هل أقولُ تَعِبْتُ من نوحِ الحَمَامِ على غُصُوني جَرَّدَتها الطائراتُ من اخضرارِ قصيدةٍ. ماذا يقولُ الشِعرُ في هذا الزمانِ، يُفصِّلُون مقاسَهُ بالنتِّ والشيكاتِ. أو ماذا يقولُ مؤرّخُ السلطانِ بعد الكشفِ عمّا خبَّأتُهُ (....) من غازٍ وأسلحةٍ مدَمّرةٍ رآها الناسُ في التلفاز: حشدَ مقابرٍ ومنابرٍ.. يا حرفُ، يا نمّامُ، هل تصلُ القصيدةُ حتفَها بالكشفِ؟.. هل حتفي سيوصِلُني إلى معناي؛ يا حلاجُ!.. أين سيوفُهم عَنِّي!؟.. تَعِبْتُ من البقاءِ المرِّ. ما في القلبِ من شبقٍ ومن غُصَصٍ؛ سيكفيني لعُمرٍ قادمٍ، في جنةٍ، نحنُ اخترعناها، على حجمِ اشتهاءاتٍ محرّمةٍ.. أيُعنِي الربُّ من تُفّاحةٍ سقطتْ على حوَّاءَ من عطشٍ إلى المعنى، على Newton من عِلَلٍ إلى المبنى، لنَدخُلَ دورتين تعاكستْ طُرُقاتُهُنَّ إلى التضادِ..

فأين منِّي خُطوةٌ تفضي إليَّ...

 

وأين منِّي..

 

شارعٌ يفضي إلى Soho

 

وآخرَ نحو محي الدين بن عربي

 

لا يتقاطعان..

 

ولا يتواصلان..

 

ولا يصلان بي...

 

إلّا إلى رفٍّ من الكتبِ القديمةِ عاث فيها العثُّ والأيّامُ

 

كانا ينبئانِ بخِربةٍ...

 

أو غربةٍ

 

لا تنتهي..

 

...............

 

.........

 

مطرٌ بلندن، لا الطريقُ تدلُّني للبيتِ. لا جرسٌ يرنُّ بأخرياتِ الليلِ. لا ريحٌ تدقُّ البابَ. أين أضعتهم!؟ أصحابَكَ الماضين بالكلماتِ، يفترشون أحلاماً ولا ينسون أيّاماً، قضيناها على ضوءِ الفوانيسِ الشحيحةِ. أين أُبْصِرُهم؟ بـ ليفربول!؟ أو ديزفول!؟.. ما تركَ الرصاصُ من العتابِ، من الصحابِ، من انحشاري بين مظروفين، أو (....)، صوت أبي يُؤنّبُني لأَنِّي قد رسبتُ بمادةِ الكيمياء. ما الخيمياء؟ ما الأشياءُ؟.. هل أمشي؟ تَعِبْتُ...

 

فمَنْ سيدلُّني؟

 

.............

 

....

 

تتمايلُ الأوراك. كيف أراكِ؟ (....) ودمي؛ وراءَ نوافذِ الليلِ الطويلِ، يَئِنُّ من دَنَفٍ.. عَتَبْتُ، ولا أقولُ تَعِبْتُ من حملِ الصليبِ. ولا أقولُ لِمَنْ سأُورثُ هذه الكلماتِ.. (....) فأُغافِلُ السنواتِ نحوَ قصيدةٍ لمْ تكتملْ (....) جهشتْ مراياها لأوركسترا الحنينِ، يبثّها وترٌ يتيمٌ يستثيرُ بي المسا..

 

بين المطار لكي تطيرَ، وبين سجنكَ؛ دمعتان، من الأسى..

 

دارَ الزمانُ عليهما.. دار الزمانُ، فما نسيتَ وما نسى؟..

 

..........

 

.....

 

مطرٌ؛ سِراعاً يَعبُرُ العشّاقُ والمتسكّعون، فلا أرى إلّا ظلالي في الطريق (....) أرى القصيدةَ شِبْهَ عاتبةٍ، فأصحبها إلى فنجانيَ المعهودِ حتى الفجر. لا فجرٌ يُطِلُّ وراءَ قضبانِ العراق. فكم يطولُ الليلُ يا ليلَ العراقِ؟..

 

متى يعود المتعبون من الشتاتِ؟!

 

متى أرى أغصانَ دجلةَ يستظلُّ بفيئها العشّاقُ؟..

 

هل يومٌ يمرُّ بلا رصاص؟..

 

..........

 

......

 

هل مطرٌ بلندن؟..

 

هل أسيرُ لآخر المشوار؟....

 

- يا بغداد –

 

أم يوماً أعود!؟...

 

..............

 

......

 

مطرٌ بلندنَ، أَتعَبَتني الروحُ لا تدري ولا أدري لأيّةِ وِجْهةٍ تصبو، وأصبو. أستميحُ اللهَ كيف خلقتني من رغبةٍ مجنونةٍ. لم تستشرْني كي أقرّرَ ما أقرّرُ من حياةٍ سوف أحسوها على غُصَصٍ. وكيف تحاسبُ المغصوبَ – يا ربّاهُ – عمّا اخْتِيرَ. لي قلقي وشكّي، كيف طافا بي. هل هما بلواي؟ أم تقواي؟ أم قدري؟.. تشابكتِ الرياحُ أو الرماحُ على دمي. ودمي وضوءُ صلاتهم. كيف استباحوه وراحوا يرقصون على طبولِ مفسّرٍ أعمى يرى بجمالِ مخلوقاتهِ أصلَ الغوايةِ، في موسيقى روحهِ رجساً، بخمرةِ وجدِهِ إثماً... وراحوا يطمسون بهاءَهُ الأَخَّاذَ في حجبٍ وأدعيَّةٍ. وهمْ لم يَحْجُبوا – في الكونِ – إلّا هنَّ؛ إلّا خمرةَ الروحِ التي اعتصرتْ يدُ الله الخبيرةُ. كمْ قضى ليكوّرَ الصدرَ اللجينَ، يسرّح الخصلَ الخضيلةَ، نافخاً من روحهِ فيها وروحي. آهِ - يا ربّاهُ – أجملَ ما خلقتَ من التمازجِ بين هذا الليلِ، والبحرِ - القصيدةِ. هل صحيحٌ أنْ تسمّيها – أجلَّكَ – عورةً... ماذا تسمّينا إذاً؟ ماذا تسمّي ذلك التاريخَ من عوراتِنا، وحروبِنا....؟!

 

...............

 

.....

 

مطرٌ بلندن، يَغْسِلُ الروحَ، الشوارعَ، من سباتِ الثلجِ والصحراء: اقنوميَّ. لي خمسون عاماً استظلُّ بغيمةٍ أو خيمةٍ مثقُوبةٍ: وطناً ومنفىً. والطريقُ إليهما، ذاتُ الطريق، إلى القصيدةِ. أورثتني فقْرَها وعداوةَ المتشاعرين. أكابدُ ما أكابدُ.. آهِ، كان الله في عونِ المكابدِ قالَها ووصالَها.. قَزْمٌ يثيرُ غبارَهُ حولي ليَحْجُبَني، وشُعْرُورٌ سيَشْتمُني!، ويحسدُني! (على ماذا..؟)، وبعضُ مهرّجٍ أعماهُ نفثُ الحقدِ لا الصهباءُ... أطرَحهمْ وأجمعهمْ، وأجمعهمْ وأطرحهمْ بأشعاري وآلامي. وأُطْفِئُهمْ وأُشْعِلُهم، وأُشْعِلُهمْ وأُطْفِئُهمْ؛ بحقدِهمُ؛ وأصعدُ غيرَ ملتفتٍ. ورائي العاطلون، ووجهتي شمسُ القصيدةِ. آهِ، ما أبهاكَ يا وطني، وما أضناكَ ما أضنى وما أشهى القصيدةَ.. ظَنُّهمْ أنْ يَحْجُبوكَ بنقعِهم، يا بؤسَهمْ - لمْ يعلَموا - سقطتْ صروحُ زعيمِهم لمزابلِ التاريخِ وانكشفوا. فما لضجيجِهم كصفائحٍ تلهو الرياحُ بها..

 

.....

 

...................

 

مطرٌ بلندنَ، ما الذي يأتي به مطرٌ بلندنَ، أزرقُ الخُطُوات، يمضي بي إلى حانٍ قريبٍ، أكرعُ الأيّامَ كأساً تلو آخرَ. سوف تسألني فتاةٌ شِبْهُ ساهمةٍ: لماذا الحُزنُ في الشُعراء – كالأشجارِ – ينمو، كلّما ابتلّتْ سماءٌ أو حكى نايٌ. سنقرعُ كأسَنا في صحةِ الأيّام، بين تزاحمِ الكاساتِ والقُبلاتِ، رأسَ العامِ. رأسي مثقلٌ. لم تأتِكِ الأخبارُ إلّا بالفواجعِ. أين من عينيكِ خفقُ نوارسٍ عَبَرَتْ تُحَيِّي صبحَكِ الأندى. تُنَقِّرُ عُشْبَ نافذةٍ سقيناها هناكَ على ضفافِ الكرخ. يا ذاك البنفسجُ كيف لمْ تَذبُلْ. وكيف على المناضدِ عرّشتْ لمساتُنا غاباً وكمثرى. وكيف تلوّنتْ فرشاتُكِ – الكلماتُ. كيف تتالتِ السنواتُ، بين الحبِّ، بين الحربِ والمنفى؛ وبينهما أراكِ: قصيدةً، مهموسةَ الإيقاعِ.. تفترشين جَدْبَ الروحِ. يا مطراً يشخبطني على الأوراق، كيف ألـمّني؟:

 

وطناً تناهبهُ الطغاةُ،

 

أو الغزاةُ،

 

أو الظلاميُّون،

 

أو جيشُ العمائم..

 

أو فقلْ ما شئتَ: شعباً جائعاً وحقولُه عاثتْ بها الغربانُ..

 

...

 

أين حبيبتي؟ علستْ أغانيها الحروبُ، فلمْ تعدْ شُرفاتُها مفتوحةً إلّا لذكرى الآهِ والترحالِ. ما فينا سيكفينا. ويكفينا بكاءٌ منذ ألفٍ فوق ناصيةِ الفراتِ على المُضَرَّجِ بالنبالِ وبالدموعِ. تَعِبْتُ من تاريخنا، من لغطنا، من نفطنا.. يكفي؛ وهذا العصرُ - هذا العُمرُ، يلهثُ دون أيِّ هناءةٍ. من ألفِ عامٍ، آهِ – دعبلَ – لمْ تزلْ صُلبانُنا تتبادلُ الأسبابَ. والحكّامُ – فوق تخوتهم – يستورثون، يورّثون التاجَ والألقابَ. يكفينا ندورُ مع الفراغِ إلى الفراغِ. وما لنا إلّا الوَنَى. يكفي نُغَطِّي سوءَنا بنصوصِنا. يكفي نسبّحُ باسم مولانا الوليِّ نهارَنا ومساءَنا. يكفي نخادعُ بعضنا بعضاً بأنّا أمةُ التاريخِ، لو بلغَ الفطامَ صبيُّنا خرّتْ له كلُّ الجبابرِ والعساكرِ. أَيّها التاريخُ لمْ نفهمْكَ، لمْ نقرأْكَ إلّا كالأناشيدِ المُفخّمةِ المُفخَّخةِ المُنفَّخةِ الحروفِ، نَسُدُّ فيها ثقْبَنا.......

 

يكفي نواجهُ عصرَنا

 

بسياسةِ التفريخِ والتفخيخِ،

 

أو بقوائمِ التكفيرِ، والتسفيرِ،

 

أو بمتاهةِ التفسيرِ والتطبيرِ،

 

فلتبعدْ مِقَصَّكَ.

 

آهِ.. هل أفصحتُ!؟...

 

.........

 

......

 

هل مطرٌ يُبَلِّلُني؟

 

أم الخيبات

 

...........

 

.........

 

....

 

مطرٌ؛ بلندن...

 

.........................







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي