مصير اللبنانيين رهن صراع السلطتين السياسية والنقدية.. من يتحمل التداعيات الخطيرة لرفع الدعم عن المحروقات؟

2021-08-13

جنى الدهيبي: انكشف صراع السلطتين السياسية والنقدية في لبنان، وفق كثيرين، متجليًا بإصرار "مصرف لبنان المركزي" على قراره القاضي بوقف دعم استيراد المحروقات، فيما حكومة تصريف الأعمال اتخذت قرارًا في اجتماع وزاري مصغر، بالمضي في الدعم وعدم تعديل أسعار المحروقات مقابل البدء بتطبيق قانون البطاقة التمويلية للأسر الأكثر فقرًا.

وما بين هذين القرارين، توالت المواقف المضادة لأركان السلطة، بعد الصدمة التي أحدثها قرار المركزي، رغم أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أبلغ رئيس الجمهورية ميشال عون باجتماع مجلس الدفاع الأعلى، أنه لم يعد قادرًا على فتح اعتمادات جديدة لاستيراد المحروقات، معللًا ذلك بأن المركزي دفع ما يفوق 800 مليون دولار للمحروقات الشهر الماضي، وأن فاتورة الأدوية وغيرها تضاعفت، مقابل فقدانها من السوق وبيعها بأسعار تفوق قيمتها، وأن التجار والمحتكرين يستفيدون منها بدل دعم المواطن مباشرة.

فوضى المحروقات

وانسحبت الأجواء المشحونة فوضى بالشارع، فأغلقت معظم محطات الوقود أبوابها رغم تقاطر طوابير السيارات، كما لم توزع شركات المحروقات مخزونها بانتظار قرار حول التسعيرة الجديدة.

للتذكير، فإن مصرف لبنان، وبقرار من الحكومة، كان يُؤَمِّن 85% من الدولار لاستيراد المواد الأساسية من محروقات وطحين وأدوية، وفق سعر الصرف الرسمي للدولار (1507 ليرات)، فيما سعر صرف الدولار الفعلي بالسوق السوداء، تجاوز أخيرًا عتبة الـ20 ألف ليرة.

لكن قبل نحو شهرين، اتخذت الحكومة قرارًا بتخفيض دعم المحروقات، وتضاعفت حينها أسعار المحروقات، وصار سعر صفيحة البنزين نحو 77 ألف ليرة، وصفيحة المازوت نحو 57 ألفا.

ومع ذلك، استمر شح المحروقات، وصارت مادة المازوت شبه نادرة، واستمرت عمليات التهريب إلى سوريا، كما تباع المحروقات داخليا بالسوق السوداء بطريقة غير شرعية، وبواسطة غالونات، بأكثر من 3 أضعاف سعرها الرسمي.

وانعكس شح المحروقات على مفاصل حياة المواطنين، وهم يعيشون تقنينًا قاسيًا بالكهرباء، وتطفئ معظم المولدات الكهربائية الخاصة لساعات طويلة، رغم أن فاتورتها الشهرية تتجاوز الحدّ الأدنى للأجور البالغ نحو 675 ألف ليرة (نحو 32 دولارا).

وإذا رفع الدعم كاملا عن المحروقات، سيقفز سعر صفيحة البنزين إلى نحو 336 ألف ليرة، والمازوت إلى 278 ألف ليرة، وفق دراسة للمؤسسة الدولية للمعلومات، والقيمة مرشحة بالتصاعد إذا تواصل انهيار الليرة.

تناقض القرارين

تعتبر عزة الحاج حسن، صحفية متخصصة بالشأن الاقتصادي، أن قرار المركزي ليس مفاجئًا، وسبق أن أبلغ السلطة عدم قدرته على الاستمرار بتوفير الدولار للاستيراد.

وتذكر، للجزيرة نت، أن الحكومة أخلّت بوعودها للبنك الدولي، وماطلت بمشروع البطاقة التمويلية، بعد أن اشترطت رفع الدعم بحصول الناس عليها، ورغم إقرارها بالبرلمان، "تشوبها ثغرات كبيرة، وأولها عدم إيجاد تمويل لها لمساعدة عشرات آلاف الأسر بقيمة نحو 566 مليون دولار، كما لم تنته من مرحلة الإحصاء وجمع الداتا (البيانات)".

وكان المركزي أشار في بيان إعلان رفع الدعم عن المحروقات، إلى أنه سيُؤَمن الاعتمادات اللازمة، وفق سعر صرف السوق، مذكرًا بمسؤولية وزارة الطاقة تحديد أسعار المحروقات الجديدة.

وتوضح عزة الحاج، أن فتح المركزي للاعتمادات، يعني تدخله كوسيط بين التجار والسوق السوداء، أي سيقوم ببيع التجار الدولار بدل لجوئهم للسوق السوداء مباشرة.

والنتيجة، وفق الصحفية، تخبط لبنان بين توجهين متناقضين: قرار عملي من السلطة النقدية، وقرار نظري من السلطة التنفذية (الحكومة)، ممثلة بوزارة الطاقة التي تمتنع حتى الآن عن إصدار جدول أسعار جديدة للمحروقات، مما يعني استمرار شحها.

وسيبقى رفع الدعم ساري المفعول، وفقها، لأن الحكومة، لن تتمكن من توفير الدولارات من دون موافقة المركزي.

وكان الأخير اشترط استخدام الاحتياطي الإلزامي بالعملات الأجنبية -الذي تراجع من نحو 32 مليار دولار قبل الأزمة (في 2019)، إلى أقل من 15 مليار دولار- بإصدار قانون من مجلس النواب يجيز ذلك.

وترجح عزة الحاج، تحديد المركزي قريبًا السعر المعتمد لاستيراد المحروقات، سواء وفق سعر صرف الدولار بالسوق السوداء، أو الذهاب لخيار وسطي، كفتح اعتمادات مقابل نحو 12 ألف ليرة للدولار، استمرارًا برفع الدعم تدريجيا.

تقاذف المسؤوليات

ويرى خبراء اقتصاديون أن وضع سياسة الدعم منوط بالحكومة لا بمصرف لبنان، وما يقوم به المركزي، ليس دعمًا، بل مجرد توفير دولارات بقيمة أقل من قيمتها الفعلية بالسوق السوداء.

وهنا، يعتبر وزير الاقتصاد السابق رائد خوري أن الأولوية ترتكز على تشكيل حكومة، للانتقال إلى مرحلة التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

ويبرر خوري، في حديث للجزيرة نت، قرار المركزي، باستحالة الاستمرار باستنزاف الاحتياطي الإلزامي، لأنه فعليًا أموال المودعين.

وللتذكير، تفرض المصارف اللبنانية قيودًا غير قانونية على أموال المودعين، وتمنع حصولهم على ودائعهم بالدولار النقدي منذ نهاية 2019.

وقال إن الدولة ممثلة بالحكومات المتعاقبة والبرلمان، مسؤولة عن السياسات المالية والاقتصادية، وإن لبنان يدفع ثمن الإصرار لعقود على تثبيت سعر صرف الليرة، عبر تدخل المركزي المستمر بالسوق، مقابل حرق ما لديه من دولارات.

ويعتبر خوري أن الدعم ضرب القطاع المصرفي الذي كان يشكل العمود الفقري للاقتصاد، وأن المسّ بالاحتياطي الإلزامي، يعني مسألتين:

أولًا، تصفير قيمة الودائع بالدولار.

ثانيًا، عجز الدولة عن ضبط مصاريفها، لأن الليرة ستواصل انهيارها لمستويات قياسية.

ماذا يعني رفع الدعم عن المحروقات؟

يجد محمد زبيب، صحفي ومحلل بالشأن الاقتصادي، أن ثمة إلتباسا لدى الحديث عن دعم المحروقات. وإذا وضعنا مسائل التهريب والتخزين ونشاط السوق السوداء جانبًا، ومعالجتها تكون إدارية وأمنية وقضائية، وفق زبيب، فإن ربط التوظيفات الإلزامية للمركزي، بأموال المودعين، والتذرع بعدم القدرة على هدرها، تضليل للرأي العام.

وذكر زبيب، للجزيرة نت، أن رياض سلامة، أصدر قرار التوظيفات الإلزامي عام 2001، وقبلها لم يكن مفروضًا، وبالتالي "باستطاعته إصدار تعميم يلغيه أو يعدله".

ومع وجود نحو 75% من الأسر، تعاني من انهيار قدرتها الشرائية، ونتيجة مصادرة مدخرات اللبنانيين من المصارف، لم تعد قادرة على تحمل أي ارتفاع للأسعار، وبالتالي يجب تصويب النقاش نحو هذه النقطة حصرًا، بحسب زبيب، "لأن الأسر تخوض معركة بقاء، وليس لمجرد تأمين حاجات أساسية".

وإذا كانت الدولة لديها، بواسطة المركزي، كميات من الدولارات، فإن "عليها أن تديرها وتوظّفها بما يمنع مجاعة 75% من المواطنين".

ويلفت زبيب إلى أن المطروح راهنًا، "رفع الدعم عن الطاقة"، أي المحروقات ووسائل النقل والكهرباء.. و"هذه الطاقة يحتاجها المجتمع والاقتصاد، وبالتالي فإن رفع الدعم عنها يرافقه ارتفاع بكلفة المعيشة والإنتاج والعمل، وبمختلف الأنشطة التي يحتاجها المواطن".

ولا يوافق زبيب على نظرية أن رفع الدعم يضبط انهيار الليرة، "لأن التضخم والليرات الكثيرة بالسوق مقابل شح الدولار، ليست سببًا وإنما نتيجة"، معتبرًا أن رفع الدعم هدفه إيجاد طريقة تجبر الناس على خفض استهلاكهم.

وقال إن "كلفة الطاقة والدواء في 2020، تشكل نصف فاتورة الاستيراد. أي مهما خفضوا الاستيراد، سيبقى لبنان بحاجة لكميات دولارات كبيرة".

شروط

ويعتبر زبيب أن السلطة توهم الرأي العام، أن الإجراءات التقشفية شرط خارجي مفروض عليها، للانتقال إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولي، ولوضع البلاد على سكة الحل، مذكرًا أن الصندوق -وإن كان يفضل مصلحة الأسواق على الشعوب- كانت شروطه واضحة للتفاوض معه:

أولًا، اعتراف لبنان بالخسائر المالية التي وقعت بالجهاز المصرفي، وإعادة هيكلة النظام المصرفي والقطاع العام.

ثانيًا، توزيع الخسائر بين الأطراف المعنية.

ثالثًا، التقشف بالموازنة العامة، وضبط العجز.

رابعًا، وكشرط أساسي، توفير شبكات حماية اجتماعية.

ويبدو أن رفع الدعم كليا، "خيار حتمي وفق السياسة المعتمدة التي لن تنتج حلولًا".

وأردف زبيب أن خلاص اللبنانيين، يتحقق فقط بإنتاج شكل سياسي جديد للدولة -كبديل عن النظام الطائفي وعلاقات القوة وقوى الأمر الواقع- يوفر ضمانا صحيا وتعليما مجانيا وسكنا اجتماعيا وشبكة نقل ومواصلات، و"هذا يحتاج لاختراع دولة غير القائمة حاليًا".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي