أزمة الكهرباء في الشرق الأوسط تعصف باستقرار هذه الدول

Power outages cripple parts of the Middle East amid record heat waves and rising unrest
2021-07-28

نشرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية تقريرًا سلَّط الضوء على تداعيات أزمة الكهرباء وانقطاع التيار الكهربائي المستمر في عدد من دول الشرق الأوسط وإشعاله شرارة الاضطرابات بسبب آليات تقنين استهلاك الطاقة وتسجيل عدد من الوفيات بين المواطنين، بينما تشهد المنطقة في الوقت نفسه ارتفاعًا غير مسبوق في درجات الحرارة. أعدَّ التقرير كل من لويزا لوفلوك، مديرة مكتب الصحيفة في العاصمة العراقية بغداد، وكريم فهيم، مدير مكتب الصحيفة في إسطنبول، وسارة دعدوش، مراسلة الصحيفة في العاصمة اللبنانية بيروت.

دول المنطقة تحت وطأة أزمات عاصفة

في مستهل تقريرهم، يُوضِّح المراسلون أن موجات الحر غير المسبوقة التي تشهدها معظم دول منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى نقص مصادر الطاقة، أغرقت المنازل والمؤسسات التجارية بداية من لبنان ووصولًا إلى إيران في ظلام دامس وأثارت غضب السكان واحتجاجاتهم مع نفاد صبر الأسر الفقيرة واستيائهم من شدة الحر القائظ، بينما يظل عديد من الأثرياء محافظين على هدوئهم باستخدام مولدات الطاقة الاحتياطية.

وأشار التقرير إلى أن انقطاع التيار الكهربائي دفع المستشفيات في هذه البلاد إلى حافة الأزمة على نحو خطير. بينما تكافح المؤسسات العائلية من أجل البقاء والاستمرار. وفي بعض المدن، تنير مصابيح الشوارع بالكاد. وقد تجاوزت درجات الحرارة في عديد من دول الشرق الأوسط هذا الصيف مستوى 50 درجة مئوية، إذ سجَّلت إيران 51 درجة مئوية، وسجَّل العراق الرقم القياسي نفسه لدرجات الحرارة المسجَّلة في العام الماضي البالغ 51.7 درجة مئوية.

وأدَّت عقود من الإهمال وقلة الاستثمار إلى ترك شبكات الطاقة في هذه الدول عاجزة على التكيف مع هذا الوضع. وتسبب الجفاف في توقف توليد الطاقة الكهرومائية، ويتزامن هذا كله مع أزمات اقتصادية تعصف بعديدٍ من الدول التي تكافح حكوماتها حاليًا لشراء الوقود اللازم لتوليد الطاقة.

انتشار الاضطرابات في المنطقة

وفي هذا السياق، ينقل التقرير ما قالته جيسيكا عُبيد، باحثة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط بواشنطن، إن: «التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة هو السبب في تفاقم الأزمة، لكن جذور المشكلة تكمن في سوء التخطيط والإدارة السيئة وقلة الاستثمار في قطاع الطاقة». وأسفر استمرار انقطاع التيار الكهربائي في إيران عن إثارة غضب الشعب الإيراني واحتجاجاتهم في بعض المدن الإيرانية، كما أفضى إلى أن يُقدم الرئيس الإيراني المنتهية ولايته حسن روحاني اعتذارًا نادرًا هذا الشهر. وبالتزامن مع هذه الاحتجاجات، اندلعت مظاهرات أيضًا بسبب نقص المياه في محافظة خوزستان في جنوب غرب إيران.

وفي هذا الصدد، أفادت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر يوم الجمعة أن قوات الأمن الإيرانية تعاملت مع الاحتجاجات بالذخيرة الحية وقتلت ما لا يقل عن ثمانية من المتظاهرين والمارَّة. أما في مدينة البصرة العراقية الغنية بالنفط، فقد أغلق المتظاهرون الطرق السريعة وأحرقوا الإطارات، معربين عن استيائهم بسبب نقص الكهرباء وضعف الخدمات العامة. وفعل المحتجُّون الأمر ذاته في مظاهرات متفرقة في لبنان.

ولفت التقرير إلى أنه في ظل تعثر شبكات الكهرباء الحكومية في دول المنطقة، لجأت المواقع والمقرات، التي تمتد من وزارات الدولة إلى منازل العائلات، بصورة ذاتية إلى تشغيل مولدات احتياطية والتي تحتاج إلى جيش من المشغِّلين، الذين يعيشون في مقطورات ساخنة ومظلمة، على مدار الساعة لإبقائها مستمرة في العمل.

الحياة تتوقف من دون الكهرباء

وقد شُوهد أحد هؤلاء العمال مؤخرًا في بغداد يتنهد متحسرًا وهو ينظر إلى الآلة المعدنية الضخمة التي يُراقبها لمدة 12 ساعة يوميًّا، والتي يحاول منعها من السخونة الزائدة عن طريق غمرها بالماء مرارًا وتكرارًا. يقول محمود إسماعيل، البالغ من العمر 25 عامًا، إنه: «عندما ينطفئ المولد، لا يتوقف هاتفي عن الرنين لدرجة أنه يكون ساخنًا عند لمسه. ويصاب الناس باليأس عندما تنقطع الكهرباء لأن الحياة تتوقف مع غيابها».

ومن جانبهم، يرى الخبراء أن هذه المولدات المنتشرة في كل مكان، والتي تعمل بوقود الديزل، تُشكل خطورة على صحة الإنسان لأنها تقذف الأدخنة السامة المتصاعدة منها بقوة، ويضطر العملاء إلى دفع فواتير الكهرباء الباهظة لرجال أعمال فاسدين وغير خاضعين للمساءلة لكنهم يمتلكون مولدات الطاقة.

ويُشير التقرير إلى أنه بينما تدفع العائلات الثرية في جميع أنحاء المنطقة مبالغ كبيرة لأصحاب المولدات لتشغيل مكيفات الهواء الخاصة بهم، فإن العائلات الأقل ثراءً ينفقون قدرًا كبيرًا من دخلهم لمجرد الحفاظ على إنارة مصابيح منازلهم. واعتاد الشعب اللبناني منذ مدة طويلة على انقطاع التيار الكهربائي لمدة ثلاث ساعات يوميًّا، وذلك منذ انتهاء الحرب الأهلية في عام 1990 بعدما أصبحت البلاد عاجزة عن توفير إمدادات الطاقة للسكان على مدار 24 ساعة. كما ابتُكِر تطبيق هاتف لإخبار السكان بموعد انقطاع التيار الكهربائي.

بيد أن الانهيار الاقتصادي المأساوي الذي شهده لبنان في الأشهر الأخيرة ترك الحكومة من دون الوقود اللازم لتوفير الكهرباء طوال معظم ساعات اليوم. وتعمل الدولة بأسرها حاليًا على المولدات، وتوقف الموقع الإلكتروني الخاص بشركة الكهرباء التابعة للدولة عن العمل، والذي كان يُستخدَم لعرض عدد ساعات انقطاع الكهرباء.

ليال طويلة من اليأس

وينتقل التقرير إلى العراق، حيث أثَّر نقص الكهرباء في عدد من مدنها بعد تخلُّف هذه المدن عن سداد مدفوعات إيران المجاورة مقابل ما تُزوِّد به العراق من مقدار كبير من الكهرباء عبر الحدود، ما تسبب في قطع إيران لإمدادات الطاقة. وأظهرت مراجعة أجرتها وكالة أسوشييتد برس في يونيو (حزيران) أن مقدار الكهرباء المتدفقة من أربعة خطوط تمر من إيران إلى العراق قد انخفض إلى الصفر، لمدة مؤقتة على أقل تقدير.

وفي بغداد، أكَّد أصحاب الأعمال أن انقطاع الكهرباء المستمر تسبب في أن يعيش السكان ليالي طويلة من اليأس مع استمرارهم في البحث عن طرق لإعادة تشكيل ميزانياتهم لدفع ثمن طاقة المولدات اللازمة للحفاظ على تدفق الكهرباء. ومع اختلاف الأسعار، فإن الشركات يمكنها دفع آلاف الدولارات للحفاظ على تشغيل الأضواء. يقول عبد الكريم الزعبي، وهو يقف في محل العصائر التابع لعائلته، إنه: «إذا انقطعت الكهرباء، نفقد كل شيء وسوف تتعفن الثمار ويمرض الناس. لذلك علينا أن نبقي هذه الأنوار مضاءة. ومن دون كهرباء سيُغلق هذا المكان».

ويتطرق التقرير إلى الحديث عن سوريا المجاورة، والتي تُعاني هي الأخرى من نقص الوقود. ولاحظ بعض السوريين أن انقطاع التيار الكهربائي يبدو أقل حدوثًا في العاصمة دمشق والمدن المحيطة بها، وكذلك في المناطق الساحلية المكتظة بالسكان الموالين للرئيس السوري بشار الأسد، بينما يعيش باقي مناطق سوريا المعاناة ويرزَحون تحت وطأة تقنين استهلاك الكهرباء. واشتكى السكان، في مناطق تقع شمال دمشق، عبر الإنترنت منذ شهور من أن انقطاعات الكهرباء وصلت إلى 20 ساعة في اليوم. بينما ذكرت صحيفة الوطن الموالية للحكومة السورية أن انقطاعات الكهرباء في حلب تستمر في بعض الأحيان لمدة ثماني ساعات في كل مرة، مع تشغيل الكهرباء لمدة ساعة ونصف بين كل انقطاع وآخر.

تقنين استهلاك الطاقة

ويُناشد المسؤولون في دول منطقة الشرق الأوسط المواطنين بتقنين استهلاك الكهرباء، خاصة في المدة بين الظهيرة والغروب. ونشرت السلطات الإيرانية جداول زمنية لانقطاع التيار الكهربائي، على الرغم من أن البعض يقولون إن شركات الكهرباء لم تلتزم بالجداول المحددة. يقول علي رضا، البالغ من العمر 40 عامًا، والذي يمتلك شركة توريد طعام صغيرة، إن: «ما يحدث لا علاقة له حقًا بتكهنات السكان. وإذا تلقيتُ طلبًا لشراء كعكة عيد ميلاد في الساعة 6 مساءً، فسأحاول العمل عليها في الصباح الباكر حتى أنتهي منها قبل انقطاع التيار الكهربائي المقرر بعد الظهر. لكن الانقطاع بدأ فجأة في الثامنة صباحًا».

وبسبب انقطاع التيار الكهربائي، يتكبد باعة الزهور وأصحاب المطاعم وغيرهم خسائر كبيرة. ويوضح علي رضا، الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه لتجنب التعرض لملاحقة السلطات الإيرانية، قائلًا: «رأيتُ جزارين يجلبون اللحوم من متاجرهم ويقطعونها على الرصيف، لأن اللحوم تفسد سريعًا داخل محلات الجزارة التي تنقطع عنها الكهرباء».

ويستشهد التقرير بما قالته ابنة رجل إيراني يبلغ من العمر 62 عامًا يعيش في ضواحي طهران، والذي وافته المنية في وقت سابق من هذا الشهر، لأنه كان يُعاني من مرض مرتبط بالرئة يعتمد على تشغيل جهاز للتنفس الاصطناعي لمدة سبع ساعات أثناء انقطاع التيار الكهربائي. وقالت ابنته، التي تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها خوفًا من انتقام الحكومة، بحلول الوقت الذي وصل فيه الطبيب، كان الأوان قد فات وصعدت روحه إلى السماء.

تحديات جسيمة

ويُؤكد التقرير أن التحدي الذي تواجهه مستشفيات هذه البلاد، التي أنهكها وباء فيروس كورونا المستجد بالفعل، يُعد تحديًا قاسيًا وصعبًا على نحو استثنائي. وانتشر هذا الشهر مقطع فيديو على هاتف محمول يُظهر طبيبًا في وحدة العناية المركزة في طهران يدَّعي أن المرضى في وحدة العناية المركزة ماتوا عندما انقطعت الكهرباء عن أجهزة التنفس الاصطناعي. وكتب الطبيب محمد رضا هاشميان منشورًا على أحد مواقع التواصل الاجتماعي نقلته بعض وسائل الإعلام الإيرانية: «لقد واجهنا مثل هذه الأحداث والمشاهد مرات عديدة».

ومن جانبه، وصف الرئيس الإيراني المنتهية ولايته روحاني هذه الادِّعاءات بأنها «محض أكاذيب»، وقال إن جميع المستشفيات بها مولدات للطوارئ. ومع انتشار الاحتجاجات في الشوارع، اعتذر روحاني هذا الشهر عن انقطاع الكهرباء الذي لا يمكن التنبؤ به. قائلًا إن: «انقطاع التيار الكهربائي حادث مؤقت ولدينا سوابق منه في الماضي ويمكن إدارته والتعامل معه، لكن ما يُمكن أن يكون أكثر إثارة للقلق من انقطاع التيار الكهربائي هو انقطاع التيار الكهربائي المفاجئ من دون جدول زمني».

وربط الباحثون نقص الطاقة في منطقة الشرق الأوسط بتفاقم الفساد المستشري، إذ قالت جيسيكا عبيد من معهد الشرق الأوسط، إن: «قطاع الطاقة عادةً ما يكون محورًا مهمًا لدول المنطقة. ويُوجد عديد من الدول على طول خط إمداد الطاقة مكبَّلة بمخططات الفساد، ومن دون إخضاع المسؤولين عنها للمساءلة، فإن الطاقة تضيع ولا يستطيع المواطنون تحديد مَنْ يحاسبون بدقة».

أزمة الكهرباء وعواقب صحية هائلة

يضيف التقرير: على سبيل المثال، أفاد عدد من السياسيين ورجال الأعمال أن سلسلة الهجمات والتفجيرات التي تعرَّضت لها أبراج الكهرباء التابعة للحكومة العراقية الشهر الماضي كان الهدف منها جزئيًّا تحقيق مصالح تجارية خاصة لبعض أصحاب المولدات التي أرادت ضمان استخدام مولداتها بدلًا من أبراج الكهرباء. وفي صورة من أحد احتجاجات البصرة، حدَّق مراهق بعينه في الكاميرا وهو يرفع إحدى اللافتات عاليًا والتي كان مكتوب عليها: «الفساد يقتلني».

ويعتقد خبراء الصحة أن انتشار المولدات في البلاد قد يكون له تأثير استنشاق دخانها السام نفسه، إذ قدَّر فريق من الكيميائيين العاملين في الجامعة الأمريكية في بيروت، بقيادة نجاة صليبا، هذا الشهر أن اعتماد لبنان على مدار 24 ساعة تقريبًا على المولدات يؤدي إلى تسميم الهواء ثماني مرات أسرع مما كانت عليه الأوضاع عندما كانت بيروت تشغل المولدات لمدة ساعات قليلة في المتوسط​​ خلال اليوم. كما حذَّروا من أن هذا قد يتسبب في إصابة 550 حالة بالسرطان زيادة عن كل عام، بالإضافة إلى 3 آلاف تشخيص جديد لأمراض القلب والأوعية الدموية. وكتب الفريق في صحيفة النهار اللبنانية أن: «هذا الأمر سيؤدي إلى عواقب صحية هائلة وفاتورة باهظة تصل إلى 8 ملايين دولار سنويًّا».

ويُرجح التقرير أن تمتد العواقب الصحية لانقطاع التيار الكهربائي إلى أبعد من ذلك بكثير. إذ وصف محمد محبي، البالغ من العمر 40 عامًا، وهو مهندس كهربائي يعمل مستشارًا في صناعة الطاقة الإيرانية، تداعيات انقطاع التيار الكهربائي على صحة الناس العقلية ومعنوياتهم بأنه «مُدمِّر».

ويختتم المراسلون تقريرهم بالتأكيد على أن درجة الحرارة القاسية أشبه ما تكون بالعقاب، وقد رُبط بالفعل بين درجات الحرارة وعدد من حالات وفيات الأطفال في لبنان وإيران. يقول تحسين محمد، الذي كان جالسًا في منزله في بلدة ماجر بجنوب العراق، إن: «أشعة الشمس شديدة جدًّا لدرجة أنها قد تُؤذيك. ومن الصعب وصف هذا الأمر لأي شخص لم يُجرِّبُه».

ويرفع تحسين طرف عباءته السوداء ليكشف عن ندبة حرق محفورة على ساقه، قائلًا: «هل يمكنك أن تتخيل أن الشمس هي التي فعلت ذلك بي».








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي