المسافة لاتزال بعيدة : في الفرق بين ما ينتجه الذكاء الاصطناعي وما ينتجه البشر

2021-04-18

لندن - من السهل فهم كيفية تعليم الآلة اتباع قواعد نحو صارمة وإنشاء مقاطع نصوص بناء على معلومات تزود بها، أو أن يكون الذكاء الاصطناعي قادرا على استخلاص التعبير والكلمة الأكثر فاعلية لموقف معين، بناء على فهم الجمهور المتلقي. ومع ذلك، يصعب تخيل كيف يمكن تعليم نماذج الذكاء الاصطناعي الفروقات الدقيقة لأساليب الكتابة الأكثر تعقيدا، كما في الرواية والقصص الطويلة التي تتضمن مجموعة كبيرة من الشخصيات المعقدة بما تحمله من عمق إنساني.

حتى وقت قريب، كانت نماذج الذكاء الاصطناعي غير قادرة على تلبية معايير عالية وضعها الكتاب البشر، خاصة عندما تعلق الأمر بالمحتوى الطويل والمعقد، حيث نجد الكثير من الأخطاء والسقطات.

تقنية ثورية
إحدى المشكلات المتعلقة بمعالجة النصوص الطويلة التي تواجهها النماذج اللغوية هي كيفية ارتباط الأجزاء المختلفة من النص ببعضها البعض.

ومع ذلك، يقوم باحثو الذكاء الاصطناعي ببناء نماذج لغوية بتقنيات أفضل، مستخدمين كميات هائلة من البيانات وقوة حاسوبية أكبر. ويبرز في هذا المجال مختبر أبحاث للذكاء الاصطناعي OpenAI، وهو منظمة غير ربحية تهدف إلى تعزيز وتطوير التطبيقات الذكية لتعود بالنفع على الجميع. ورغم العمر الحديث للمختبر، الذي أسسه عام 2015 في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية كل من إيلون ماسك وسام ألتمان، استطاع تطوير تقنية ثورية تعرف باسم GPT وهي اختصار لـ(Generative Pre-trained Transformer).

بعد ثلاث سنوات من بدء العمل، في عام 2018 تحديدا، كشف المختبر عن أول إصدار لتقنية GPT، قادرة على معالجة اللغة الطبيعية (NLP)، والإجابة على الأسئلة وتحليل المشاعر، وذلك بفضل طريقة تدريب فريدة، هي الآن في جيلها الثالث الذي يستند إلى 175 مليار معلمة (عدد القيم التي يحاول النموذج تحسينها)، وهو بذلك قادر على إنشاء نص مقنع يصعب تمييزه نسبيا عن النصوص التي يكتبها البشر.

منذ إطلاقه العام الماضي استخدم المطورون النموذج لإنشاء نصوص وأغان ونشرات صحافية ومقالات. واكتشف مطورون إمكانية تعليم الجيل الثالث كتابة كود HTML. ودفع نجاح التقنية الجديدة شركة مايكروسوفت إلى توقيع اتفاقية مع الشركة المنتجة تضمن لها حقوقا حصرية بدمج تقنية الجيل الثالث في منتجاتها وخدماتها.

وعلى الرغم من أن مختبر الأبحاث لم يقدم أي إشارة إلى موعد طرح الجيل الرابع، إلا أن الدلائل تشير إلى أن انتظارنا لن يطول. فقد وصل الجيل الثاني والثالث في غضون عام من الجيل الأول. ومن حيث الحجم والقوة، كان الجيل الثالث أكبر بمقدار الضعف من الجيل الثاني. وبافتراض أن نفس الزيادة ممكنة مرة أخرى، يمكن أن نتوقع بناء الجيل الرابع على رقم مذهل من البيانات يبلغ 17.5 تريليون معلومة. وبالتأكيد مع وجود قاعدة بيانات بهذا الحجم، سيكون الأداء أفضل بكثير.

منذ البداية حرصت OpenAI على أن تكون تقنيتها الجديدة متاحة عبر واجهة التطبيقات والمنتجات المنافسة الأخرى مفتوحة المصدر، التي تتيح للشركات والمطورين استخدام النماذج في خدمات محتوى الذكاء الاصطناعي الخاصة بهم.

من بين المطورين الذين استخدموا الإصدار الثالث جاسمين وانغ، وهي باحثة عملت في OpenAI، وطورت أداة تتيح للعملاء تسويق المنتجات وتصميم الإعلانات باستخدام أربعة عناصر فقط من المعلومات: اسم الشركة، وصفها، الجمهور المستهدف والكلمات الرئيسة.

هذا مجرد مثال بسيط لكيفية توظيف التكنولوجيا الجديدة في سياق الحياة اليومية. في النهاية، لا توجد حدود لما يمكن تطويره باستخدام نماذج اللغة، كما تقول وانغ، التي أكدت أن الخط الفاصل بين ما ينتجه البشر وما ينتجه الذكاء الاصطناعي سيصبح بمرور الوقت أقل وضوحا، “لقد وصلنا إلى مرحلة في إنشاء المحتوى يمكن للذكاء الاصطناعي فيها الكتابة بشكل مقنع، بل حتى بنفس جودة البشر. الابتكار الحقيقي في GPT-3 هو أنك لست بحاجة إلى تعليمه أي شيء، بل تقوم فقط بتزويده بالأمثلة”.

توظيف التكنولوجيا الجديدة في سياق الحياة اليومية

 

أفلام حسب الطلب
وتعكف وانغ على كتابة رواية بالاعتماد على تقنية الجيل الثالث، “ليس بشكل مباشر، ولكن من خلال الأفكار التي تثيرها.. لقد أصبح الخط الفاصل بين ما هو منجز من قبل الآلة، وما هو منجز من قبل البشر أكثر ضبابية”. ويعتقد الشاعر إيان توماس، الذي يعمل عن قرب مع وانغ، أن المبدعين ستقلقهم في النهاية مشاعر الإحساس بالذنب، بسبب إدخال الذكاء الاصطناعي في العملية الفنية، ولكن “يمكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي كعامل مساعد للإبداع البشري، مما يسمح لك بالوصول إلى إبداعك بطرق مختلفة. إنه مثل امتلاك دماغ ثان يكمل عقلك، لا يتعب أو يشتت انتباهه، ويمكنه التفكير بحلول ربما لم تفكر بها أبدا. ومع ذلك، ما زلت أشعر أن عملي هو عملي”.

يحدث هذا مع الجيل الثالث، ولنا أن نتخيل كيف سيكون الأمر بوصول الجيل الرابع. يؤكد توماس أن “العديد من الأشياء التي نعتقد حاليا أنها تقتصر على البشر، مثل المشاعر الحميمة للتواصل بين البشر، والفهم الفريد لسياق المحادثة، والقدرة على إنشاء فن عميق، ستصبح متاحة للآلة”.

تخيل عالما تتم فيه كتابة السيناريو وإنتاج الأفلام من قبل الذكاء الاصطناعي، على مستوى الكتابة والإنتاج، يمكن تعديل كل فيلم ليلائم تفضيلات الفرد، بنفس الطريقة التي تستخدم فيها المرشحات على الصور. يمكن عرض نفس الفيلم على المشاهد بأسلوب تارانتينو أو سكورسيزي، حسب الطلب.

وفقا لإسكندر ديريك، المدير العام في قسم سامسونغ أوروبا، سيتضاءل تأثير الكاتب في عملية إنشاء المحتوى في بعض النواحي ويظل مهما في جوانب أخرى، “سيظل الكتاب يلعبون الدور الأساسي في إنشاء المحتوى، حيث لا يزال هناك طريق طويل لنقطعه قبل أن تتطابق تقنيات الذكاء الاصطناعي مع مهارات التفكير المعرفي والإبداعي للبشر. في المستقبل، سنرى الكتاب يركزون بشكل متزايد على الاتجاه الإبداعي وتطوير روايات مقنعة، مع الاستفادة من أدوات التكنولوجيا التي تساعد في التنفيذ”.

مع توسع تأثير الذكاء الاصطناعي، ستتغير أيضا الطريقة التي يتم من خلالها الحكم على جودة العمل المنتج. ويتوقع ديريك أن يعتمد ناشرو المحتوى بشكل متزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل تفاعل المستخدم، بدلا من تقييم العمل بأنفسهم، “ستصبح مشاركة القراء في النهاية مقياسا للجودة”.

قوالب نمطية
وقد تبنت منصة نشر تدعى “أنكيت” بالفعل الفكرة. حيث يُطلب من المؤلفين تحميل مخطوطاتهم، التي يمكن لمستخدمي النظام قراءتها مجانا.

ويعتمد الناشر على ردود القراء وعلى مقاييس المشاركة، باتخاذ قرار توقيع العقود لنشر الأعمال بطرق تقليدية. ويقول مؤسس المنصة “نحن نؤمن بنهج منظم قائم على البيانات لاكتشاف المواهب. هذا هو السبب في أننا نستخدم البيانات الحقيقية من قرائنا الثلاثة ملايين لتتبع وتحليل سلوك وأنماط القراءة بشكل مجهول”.

وتشمل هذه المقاييس تكرار القراءة ومعدل الانتهاء وسرعة القراءة، “إذا استيقظ شخص ما طوال الليل يقرأ قصتك، فهذه علامة جيدة”.

قد يكون هذا النهج مربحا بالنسبة للناشرين، ويمنح فرصة أوسع لاكتشاف مؤلفين مجهولين، إلا أن هناك مخاوف من أن يؤدي إلى تراجع مكانة إبداع النخبة الثقافية، وإلى سيادة الفن الشعبوي.

فكرة قيام الآلة بتقليد أشكال الفن التي ينتجها البشر عادة، فكرة غير مريحة ومقلقة بالنسبة إلى معظمنا، لكنها ليست التهديد الأكبر لصناعة النشر. هناك احتمال أن ترث النماذج اللغوية التحيزات والقوالب النمطية المجتمعية المختلفة الموجودة في مجموعات البيانات المستخدمة لتدريبها. وحتى لو تم اختيار البيانات يدويا لإدراجها فإن المشكلة تغير شكلها ببساطة، ولا يوجد فرد مؤهل لتحديد ما يشكل تحيزا أو تنوعا.

هناك أيضا مخاطر أخرى تتمثل في استخدام النماذج اللغوية كوسيلة لنشر المعلومات المضللة وزرع الانقسام والفتن.

يتصور عدد من الخبراء سيناريو تقوم فيه روبوتات وسائل التواصل الاجتماعي، المدعومة بنماذج لغوية متقدمة، بإنتاج عدد هائل من المنشورات المقنعة لدعم أجندة سياسية أو أخرى. وأيضا استهداف المجموعات والأفراد المستضعفين بمخططات للتأثير عليهم أو ابتزازهم أو إلحاق الضرر بهم علنا.

بمجرد رؤية أو سماع خبر مزيف، حتى بعد إجراء التصحيح والتراجع عنه لاحقا، من الصعب التخفيف من تأثيره أو محو ضرره نظرا لقنوات المعلومات العديدة المستقطبة التي نمتلكها في العالم اليوم.

إيلون ماسك.. إيمان مطلق بالذكاء الاصطناعي

ما يهم هو زرع البذرة الأولية. بعد ذلك، يمكن للوسائط الاجتماعية ترسيخ الأكاذيب في الوعي العام. قد يكون هذا التهديد جديدا نسبيا (التزييف العميق ظهر في عام 2017)، لكنه تصاعد بسرعة كبيرة. وفقا لتقرير صادر عن شركة “سينتنال”، وهي شركة متخصصة في حرب المعلومات، فقد نما عدد مقاطع التزييف العميق المتداولة بنسبة 900 في المئة على أساس سنوي.

فرصة تأرجح الرأي العام والتلاعب بنسيج الواقع واضحة للغاية، ومن الصعب أن نرى كيف يمكن للمجتمع أن يستفيد من الإمكانات الكاملة لتوليد محتوى الذكاء الاصطناعي دون إطلاق العنان لوحش جديد ومخيف.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي