عمان القديمة والجديدة :اختلاف في الأذواق وانقسام المكان

2021-04-16

محمد تركي الربيعو*

خلال العقدين الأخيرين، كان حقل دراسات الشرق الأوسط على موعد مع عدد كبير من الأبحاث والكتب التي تناولت تأثير سياسات النيوليبرالية على واقع عدد من مدن هذا العالم المشؤوم. وربما كانت مدينة القاهرة من أولى المدن التي عرفت اهتماماً بهذا الجانب، إذ شهدت ولادة مدرسة الدراسات الحضرية في الجامعة الأمريكية، وانشغل المنضمون إليها في دراسة تأثيرات الأفكار النيوليبرالية على أذواق المصريين، وأيضا على صعيد جغرافية المدينة، ومن أهم الكتب التي اشتغلت في هذا الجانب كتاب الأنثروبولوجية الهولندية أنوك دي كونينغ «أحلام عولمية» الذي درست فيه انقسام المصريين على صعيد المكان (أحياء عشوائية مقابل أماكن للنخب) أو على صعيد الأذواق. إذ لاحظت مثلا أنّ مقهى ستاربكس هو العالم الجديد لقسم كبير من نخب هذه المدينة، بينما بقي عالم الفول مرتبطا بالعالم القديم (البلدي) وأهله، لكن القاهرة لن تبقى الاستثناء، إذ سرعان ما انضم عدد من المدن العربية الأخرى إلى هذه المقاربة، كما في مثال أبحاث ليزا ودين وجمال باروت عن سوريا بعيد عام 2000، وأيضا على صعيد مدينة بيروت، وولادة مشاريع نيوليبرالية جديدة بعد الحرب الأهلية. وربما الجديد على هذا الصعيد، بروز عدد من الدراسات والكتب التي باتت تتناول مدينة عمان الأردنية، مثل كتاب «شاهد على الفقر» للأنثروبولوجي الأردني أحمد أبو خليل، الذي قدّم فيه صور عن هذه المدينة بوصفها مدينة للعشوائيات، وهي أماكن أخذت تتوسع في ظل مشاريع حكومية، لم تعد تركز على هذه الفئات، بل على مصالح جماعات ضيقة.
ومن بين الكتب الجديدة في هذا السياق أيضاً، الكتاب الذي صدر في الأيام الأخيرة بعنوان «الفضاءات العامة في مدينة عمان»ـ المركز العربي للأبحاث للأكاديمي الفلسطيني ضرغام شتية، وهو بالأساس عبارة عن أطروحة دكتوراه، تقدّم بها المؤلف قبل سنوات قليلة، وتناول فيه ما أخذت تعيشه هذه المدينة في العقدين الأخيرين، على صعيد انقسام المكان (عمان الغربية والشرقية) وأيضا على مستوى بروز أنماط استهلاكية جديدة جراء ما يدعوه بالسياسات النيوليبرالية الأردنية. تقوم الأطروحة على إجراء مقارنة بين الفضاءات العامة في العبدلي الجديد، الذي يعكس الفضاءات الحديثة المعولمة في المدينة، وعمان القديمة ومركزها المتعارف عليه محليا بتعبير «البلد» بالاعتماد على أفكار هنري لوفيفر مؤلف كتاب «إنتاج الفضاء العام» الذي يرى أنّ الحياة اليومية، احتلتها الرأسمالية في ظل السيطرة على المكان الذي تتم فيه الحياة اليومية، وهو الفضاء العام، الذي لم يعد مجرد وسط أو مكان فحسب، بل هو ترابط من الشكل الجغرافي والبيئة المبنية والمعاني الرمزية وروتين الحياة.
يبين شتية في سياق قراءته لتطور مدينة عمان، أنه حتى أربعينيات القرن العشرين، تميزت هذه المدينة بتشابه بنيتها العمرانية مع بنية المدن الاسلامية، فالمسجد الحسيني في الوسط وبجانبه السوق، وفي مقابله قصر رغدان. ولذلك بقي مركز المدينة القديم (البلد حاليا) يمثّل الفضاء العام الرئيس، الذي تتم فيه أنشطة الناس المختلفة في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية اليومية. في ما بعد، ساهمت مجموعة من العوامل في التطور والتحول السريع، كان من أهمها حدوث الطفرات السكانية، إثر قدوم اللاجئين الفلسطينيين 1948 و1967 ولاحقاً مع قدوم لاجئين لبنانيين ومؤخراً سوريين، كما عرفت عمان في التسعينيات عودة قرابة 300 ألف أردني من الكويت، ما ساهم في تضخّم الكثافة السكانية في المدينة وولادة مشاريع عمرانية ومراكز تجارية في أحياء مختلفة مثل الصويفية، من خلال التسهيلات التي حصل عليها بعض المستثمرين لإقامة مراكز تسوق كبيرة، وشيئا فشيئا بدا واضحا ظهور غرب عمان الحديث (الشميساني، تلاع العلي) الذي يتمتع فيه الناس بدخل مرتفع، وبنية تحتية وفوقية متطورة ومستوى تعليمي مرتفع. وشرق عمان الأقل تطوراً والأدنى دخلاً والأعلى كثافةً، مع معدلات بطالة مرتفعة.

ومع بداية القرن الجديد، كانت البلاد تتجه نحو الخصخصة، وتبني سياسات النيوليبرالية، ما شجع على المزيد من الطفرات المعمارية، وبناء المشروعات الضخم، وأخذ الحديث يزداد عن مشاريع «الدبدبة» في إشارة لمدينة دبي، التي غدت أنموذجاً يحتذى. وكمثال عن هذه المشاريع يركز المؤلف على حي العبدلي كمكان للدراسة، وهو عبارة عن مشروع يقع في منطقة متوسطة بين شرق عمان وغربها، وقد جاء على نمط مشروع سوليدير في بيروت، ويشمل العديد من المباني السكنية والتجارية والفندقية، وعرف بمسميات مختلفة مثل «الوسط الجديد لعمان». كما ترافق ظهوره مع انتشار عدد من الإعلانات مثل «اشتر قطعة في الجنة» وغيرها التي أخذت تغري الساعين إلى نمط حياة عصرية جديد، كما أنّ المحال التجارية في داخله تحمل أسماء ماركات عالمية، ولذلك فهي لا تخاطب جميع الأردنيين بل فئة محددة، ممن لديها قدرة شراء سلع وخدمات غالية الثمن.
يرصد المؤلف، في هذا الجانب، الانتقادات التي رافقت هذا المشروع في الرسوم الكاريكاتيرية والمسلسلات والصحف، ومن بينها رسم كاريكاتيري للفنان عماد حجاج يتضمّن شخصية خيالية سماها «أبو محجوب» وتمثّل شخصية المواطن البسيط، الذي يعبّر عن رفضه للمشروعات العقارية النيوليبرالية، التي تفاقمُ من التفاوت بين الطبقات والفضاءات داخل المدينة، كما يعبّر أبو محجوب عن رفضه تخصيص الدعم الحكومي، الذي يأتي من المساعدات الخارجية والفوائض النفطية لمثل هذه المشروعات، بدلاً من تخصيصها لمشروعات تخدم المصلحة العامة.

عمان البلد… مركز للحنين

يخصّص المؤلف قسما من أطروحته لإجراء مقارنة بين أذواق ومخيال رواد العبدلي ورواد عمان البلد، وربما من أهم الصور التي يكشف عنها، أنّ هذا الابتعاد الاجتماعي بين أهالي عمان، على مستوى المكان، لم يمنع أهالي العبدلي من استمرار ارتياد شرق عمان، بيد أنّ خطوط الزيارة وهمومها اختلفت عن السابق، فهم في الغالب لا يأتون إلى هذا الشطر من المدينة للتبضع، أو شراء حاجياتهم، بل يبحثون عن أشياء من الماضي مثل المدرج الروماني وجبل القلعة، أو أماكن ومطاعم تحاكي التراث والأصالة مثل مطعم هاشم أو مشاوي شهرزاد أو حبيبة لتناول الكنافة. واللافت في غاية هذه الزيارات انسجامها مع خطط أمانة عمان، في إعادة إحياء بعض الأماكن التراثية، أو تطوير بعض الأحياء التقليدية مثل شارع رينبو، في محاولة، كما تقول، للحفاظ على عمان التقليدية، بينما يلاحظ أن معظم مرتادي شارع رينبو هم من ميسوري الحال، كونه يضم أيضا مطاعم وماركات عالمية. وبالتالي نرى أنّ عمان القديمة، تحولت لدى بعض سكان المدينة والحكومة إلى مكان يرسمون من خلاله صورة أخرى عن عمان القديمة، تتوافق مع رغباتهم وبحثهم عن أماكن لاستهلاك التراث، وهذا ما تنبه له الأثنوغرافي الفرنسي أريك دينيس في سياق قراءته للقاهرة بين آثار الماضي وإعادة التأسيس الليبرالي، إذ وجد أنّ إعادة إحياء روائع الماضي لا يقف عند حدود رسم صور عن المدينة، أو إحياء أبنيتها فقط، بل يشمل أيضاً الاستخدامات الاجتماعية للأبنية، ولإطارها القديم أيضاً، عبر جعل التراث والتاريخ حاضرين في المدن، وعبر جعل الماضي مادة استهلاكية.
يلاحظ المؤلف أيضا أنّ معظم مرتادي العبدلي يتميزون بمستوى تعليمي مرتفع، ويجيدون لغات عدة، كما يتميزون بارتفاع مداخيلهم واستهلاك الماركات العالمية. بينما نرى أنّ مرتادي عمان البلد يتميزون بدرجات علمية أقل، وبالتالي فإنّ الفضاء في عمان بدأ يتمايز ويشهد حالة من الاستقطاب على مستوى أهالي المدينة، ورواد المكان، وهذا ما تدعمه استبيانات أخرى أجراها الباحث، وتبين أنّ 41% من مرتادي البلد لم يزوروا العبدلي الجديد، وبعضهم لم يسمعوا عنه أصلا، بينما أكد آخرون أنّ زيارة هذا المشروع لا تعنيهم لأنه لم يخصص لهم، بسبب الغلاء الباهظ لأسعار السلع والخدمات فيه، في حين أنّ هناك قسما كبيراً عبر باللغة العامية «عمي هذا المشروع مش إلنا/ هذا المشروع ليس لنا».
تكشف لنا هذه العبارة، أنّ مدينة عمان وبعد مئة سنة على تأسيس المملكة الأردنية الهاشمية، ازدادت تشظّياً، وأنّ هذه الانقسامات الاستهلاكية لا تشير فحسب إلى انقسامات ذوقية، بل إلى واقع شرائح واسعة باتت تشعر بالتهميش يوماً بعد يوم، ولذلك نراها تبحث عن مخلص هنا، أو عن أي حادثة أخرى، لتحويلها إلى قضية رأي عام، علهم يستعيدون المشهد والمكان، والأهم من ذلك أحلامهم، ولو لبرهة من الزمن.. والله أعلم.

*كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي