ماجستيك الساحرة الناجية من الغرق الكبير
2020-07-29
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

ما عانته الجزائر من تجهيل ثقافي وفني، خطير جداً، سطح ذهنيات الأجيال اللاحقة، التي لم تجد أمامها إلا الجفاف وعداوة الفنون. على الرغم من جهود الكثيرين، لقد انتصر السياسي الأمّي على السياسي ذي الأبعاد الثقافية المتعددة والواسعة.

لا نستغرب أن نجد من الجيل الجديد، الذي أعقب جيل السبعينيات حتى الثمانينيات، من لم ير فيلماً واحداً في حياته في قاعات السينما، ولا مسرحية ولا أوبرا، وأنها لا تعني له شيئاً، فقد ربّي في الرماد وعلى الخطابات الوطنياتية المفرغة من أية حياة، ونسي المسؤولون وقتها، وإلى اليوم، أن الوطنية تبدأ من الفنون والآداب، فهي ركيزتها الحقيقية.

لا نعرف اليوم الكثير عن ألبانيا، لكن إسماعيل كداري حملها على ظهره وزج بها في العالمية. شكسبير وحده يكفي لتذكر إنجلترا التي كبرت به.

ما هي اليابان من دون كيروساوه وموراكامي اليوم؟ وهل لليونان قيمة من دون كانتزاكي أو ميكيس تيودوراكسيس أبو رقضة زوربا الشهيرة «سيرتاكي»؟ كيف يطلب اليوم من الجزائري، الذي أفرغ من الداخل، أن يكون سوياً وطبيعياً ومدافعاً عن النور؟ في ظل جو التصحر، كيف نستغرب ميل الناس في التسعينيات نحو الحركات الأصولية المتطرفة؟ الرادع الفني الذي يهذب الإنسان ويفتح أمامه آفاقاً أخرى قد دُمّر فيه. أن تقتل إنساناً على الأمد البعيد، ليس أن تطلق النار عليه، ولكن أن تسرق منه كل إمكانات حياة أخرى.

ورثت الجزائر من الحقبة الاستعمارية 400 قاعة سينما، بعد الاستقلال، بدل حمايتها وتدعيمها والعمل على توسيعها بقاعات أخرى، تمت إبادتها حتى اضمحلت نهائياً وقتلت، ولم يبق منها إلا العشر بعد موت جمهور السينما الذي تخطى في السبعينيات 40 مليوناً من ساكنة لم تتجاوز 20 مليوناً.

وتحولت القاعات إلى صالات للأعراس، لا روح فيها ولا حياة. وبدل استرجاع هذا الميراث السينمائي الوطني من قاعات وصالات، بدأ المسؤولون الترميمات هنا وهناك دون فائدة كبيرة. كان يفترض استرجاع القاعات من الذين نهبوها بلا عقاب، وتخصيص ميزانية حقيقية لترميمها وفتح السوق السينمائية الوطنية على الأفلام العالمية.

وهو ما لم يتم في كل وزارات الثقافة المتعاقبة، الأمر الذي جعل الجزائر تتخلف، وقد كانت على رأس البلدان العربية مع مصر، في هذا المجال. يكفي أن نعرف أنه باستثناء قاعات رياض الفتح، والأوبرا، التي بناها الصينيون هدية بعد الأسواق الوطنية التي تحصلوا، لم تبن الجزائر لا قاعات ولا مسارح ولا أوبرا، باستثناء البنيات التحتية الاستعمارية التي هرمت، الكثير منها يحتاج إلى تأهيل جديد.

حتى الموجود لم يحافظ عليه. ماذا يعني الميراث إذن في ثقافتنا؟ الميراث المنجز محلياً من خلال قرون من الجهد والتمايز والعبقرية؟ لقد تم تطوير عقلية عدمية لا ترفض فقط ما لا يروق لها، ولكن تطمسه.

وبدل الاحتفاظ بالذاكرة حية وتوريثها للأجيال اللاحقة برؤية فنية وطنية متفتحة، راح سدنة العدمية يقومون بكنسها، وبغرس الرؤوس في الرمال وكأنها لم توجد أبداً. قاعة واحدة شذت قليلاً عن هذا الموت المبرمج، صالة الأطلس الضخمة، ماجستيك Majestic سابقاً. تستحق هذه القاعة العظيمة أن نتحدث عنها اليوم في ظل هذا الاندثار المتسارع لكل ما كان يجعل الجزائر في الواجهة الثقافية العالمية.

أسسها صاحبها جوزيف سايبيراس Joseph Seiberras ودشنها في 1930. فقد كان يملك قاعة عرض صغيرة في عاصمة الجزائر في العشرينيات، قبل أن يقدم على المغامرة الكبرى. كان هذا الرجل العاشق للسينما والمشبع بها حد الجنون يحلم بتشييد قاعة كبيرة، صالة عروض، تنافس القاعات العالمية المعروفة في بدايات القرن العشرين.

في زمن قياسي أنجز واحدة من أجمل وأوسع وأحدث وأرقى صالة سينما في العالم ماجستيك. صُنفت وقتها واحدة من أكبر عشر صالات عرض سينمائي في العالم. مع ثلاثينيات القرن العشرين نفّذ حلمه المدهش الذي سكنه زمناً طويلاً، ومنح مدينة الجزائر هذه القاعة التي تستوعب 4000 شخص. شيء لا يمكن تصوره في ذلك الوقت.

لتنفيذ هذه المَعلمَة العظيمة، استلف من البنك مالاً كبيراً، وباع قاعته الصغيرة، كما احتاج إلى 1500 متر مربع من الأرض، في حي باب الوادي. وجاء باليد العاملة المحترفة من أقاصي البلاد وإيطاليا. فكانت النتيجة مذهلة، واحدة من أعظم وأجمل قاعة سينما في العالم، بتقنية غريبة وفريدة في وقتها، أدهشت كل عشاق الفن السابع.

لا يوجد بصالة العروض مثلاً أي سقف في بلد متوسطي عرضة للأمطار الموسمية والرياح. كان العلو مفتوحاً كلياً على الهواء، على السماء وعطر البحر وأشجار البرتقال. بإمكانك ليلاً أن ترى النجوم وأنت تتفرج فلماً أو ترى مسرحية أو تسمع موسيقى. كان السقف بطول 23 متراً في 13 متراً. في حالة الأمطار والرياح، تكفي دقيقة واحدة لتلتقي القطعتان المعدنيتان بصمت، وتنغلقا بإحكام، من دون حتى أن ينتبه الجمهور لذلك. منصة الصالة جهزت لتكون قادرة على استيعاب أكثر من 400 ممثل وفنان ومسرحي، قاعة العروض كانت مجهزة بأحدث الوسائل التي لا يمكن تخيلها في وقتها. في عمق سينما ماجيستيك بار أنيق مطرز بالمقتنيات والمنحوتات النادرة.

اضطر سايبيراس إلى أن يستعين بالنحات المشهور علاء فيليب Ala philippe لينجز أناقة الداخل وقاعة المعارض الفنية التي كانت تتوسط البناء. الذي يمكن تسجيله لصالح هذا العاشق المغامر في السينما إضافة إلى الذائقة الفنية الكبيرة سخاؤه الكبير. فقد ظل سايبيراً مرتبطاً بالأعمال الخيرية، وفي حالة إصغاء دائمة لحاجيات المستشفيات والملاجئ ودور الأيتام، فيوفر لها الحاجيات من الدواء والإسكان والإطعام.

كانت سينما ماجستيك قِبلة كبار الفنانين وعشاق الفن السابع من العالم والعروض المسرحية والموسيقية والسينمائية. تبدو اليوم صالة الأطلس اليوم ليس فقط ثقيلة ومنهكة، ولكن في أغلب الأوقات فارغة، وحزينة ومنفصلة كلياً عن تاريخها السينمائي السابق وكأنها لا تمتّ له بصلة، يتيمة في فراغ ثقافي كبير، وفي ديكور مبهر يحده البحر والجبال، يمر بصمت أمام أعين العابرين. وعلى الرغم من تسييسها، فقد أنقذت ماجستيك من الموت الذي طوى تاريخ 400 قاعة كانت حية. فهي Rescapée du grand naufrage، أي من الناجين من الغرق الكبير الذي ابتلع كل شيء.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي