وأجرت مصر والسودان وإثيوبيا مفاوضات متعددة ومختلفة على المستويات الفنية والسياسية والقيادية للتوصل إلى اتفاق تعاون كامل بينها عقب الإعلان عن مشروع سد النهضة، من أجل مراعاة الطموحات ومصادر القلق المصاحبة لبناء للسد.
واستضافت الولايات المتحدة في مفاوضات للأطراف الثلاثة بحضور البنك الدولي إلى أن توقفت إثيوبيا عن المشاركة في هذا المسار، واقترحت مفاوضات تحت رعاية أفريقية، وهو ما لم يقبله الطرفان الآخران لشعورهما أنها محاولة للتسويف، خصوصاً مع اقتراب موسم الأمطار الذي كانت قد أعلنت إثيوبيا أنه سيشهد الملء الأول لبحيرة السد.
ومع تزايد الاختلافات وارتفاع نبرة التوتر عرضت الدول الثلاث مواقفها على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لتسجيل الوضع وتمهيد الطريق لما سيحدث في المستقبل، دون المطالبة في هذه المرحلة باتخاذ إجراءات محددة، وتضاءل في الآونة الأخيرة التفاؤل حول إمكانية التوصل إلى حل من خلال السبل الدبلوماسية والقانونية. وبصراحة تامة المسألة أصبحت خطيرة للغاية وشديدة الحساسية بالنسبة لمصر، لاعتمادها شبه الكامل على النيل كمصدر رئيس للمياه، وهو أمر يجعل السعي للتوصل إلى اتفاق ثلاثي بين الدول الثلاث بالغ الأهمية وأولوية قصوى، ومن ثمَّ أرى أن قضية سد النهضة أصبحت الآن في مفترق طرق بين السلام والتعاون أو الصدام الخطير، وعلى الجميع تقدير حساباته جيداً.
وفي الأيام الأخيرة بمبادرة من السودان، تم استئناف المفاوضات الثلاثية بحضور مراقبين من الاتحاد الأوروبي وأميركا والاتحاد الأفريقي، على أمل التوصل إلى حل في محاولة أخيرة لتجنب النزاعات والخلافات. بينما فرص التوصل إلى حل تتضاءل يوماً بعد يوم، لأن التأخير في حسم الأمور من قِبل إثيوبيا يثير تساؤلات حقيقية حول نواياها الاستراتيجية، بخاصة، ولا أجد أي تناقض بين الغايات والأهداف المشروعة المعلنة للدول الثلاث، فهناك وفرة في مياه الأمطار على ضفاف حوض نهر النيل، التي تصل إلى 1660 مليار متر مكعب سنوياً، فضلاً عن 7 آلاف مليار متر مكعب أمطاراً في المنطقة بأكملها، يمكن استخدامها والتوفير منها لتحقيق أهداف إثيوبيا التنموية في توليد الكهرباء، ولضبط تدفق معدلات مرور المياه عبر السودان، والاستجابة لاحتياجات مصر المتزايدة في المياه في ضوء الزيادة السكانية التي تشهدها.
وأهم الخلافات التي لها طابع سياسي هي أن إثيوبيا لا تعترف بالمصالح التاريخية للدول الأخرى وعلى رأسها مصر، وتتمسك بأن تكون لها السيادة الكاملة على السد، ولا تقبل بأي مشاركة من قِبل مصر والسودان في إدارته أو في ضبط معدلات تدفق المياه عبره.
وفي مقابل هذا، تتمسك مصر بضرورة عدم مساس السد باحتياجاتها المائية أو حقوقها التاريخية، بغض النظر عن معدلات الأمطار أو الجفاف، وبأن يتم تنظيم تدفق المياه على أساس اتفاق وتفاهم مستمر بين الدول الثلاث، هدفها الأساس حماية معدلات تدفق المياه لما تعانيه من فقر المياه والحاجة إلى حصص تتجاوز حتى حقوقها التاريخية.
أما السودان فيعمل على تجنب صدام بين جيرانه، بما لا يؤثر في مصالحه، ويريد ضمان سلامة السد وتدفق المياه بشكل منتظم حتى يستطيع التوسع في الاستثمار الزراعي.
وتحقيقاً للأهداف المرجوة أقترح الآتي:
1. أن يتم التركيز على المرحلة المستقبلية وضمان الاستفادة المثلى من وفرة المياه المتاحة لأغراض التنمية والطاقة والزراعة للاستخدام الآدمي، والهدف هنا هو الاتفاق على الاستخدام الكامل والكفء للمياه المتوفرة بطول حوض النهر النيل، وهو ما لا يتعارض مع الحقوق التاريخية لمصر أو السودان أو مع مبدأ عدم الإضرار بالغير.
2. إدارة المياه وحل المشكلات أو الخلافات المستقبلية في هذا الشأن بآليات متدرجة وتصاعدياً حتى يتم حسمها دون إضاعة الوقت، ويمكن تحقيق ذلك دون المساس بالحقوق السيادية لإثيوبيا، ودون أن تستغل هذه الحقوق لعرقلة حل الخلافات على حساب الآخرين، بحيث تعالج القضايا على ثلاث مراحل؛ الأولى من إدارة السد وبشفافية كاملة ومراقبة من الأطراف، وفقاً لمعايير ومبادئ استخدام المياه وتدفقها، وهو ما اقترب منه الأطراف الثلاثة كثيراً، وتُجري الآن محاولة استكماله بشكل أكثر تفصيلاً.
والمرحلة الثانية تتناول الموضوعات التي حولها تباين في المواقف والآراء بغية حل الخلافات والتغلب على التباين في المواقف على مستوى الأول بعرض الموضوعات على لجان فنية متخصصة حسب الموضوع، وعلى مستوى سياسي لمندوبي وممثلي الدول الثلاث لتتخذ قراراً سريعاً بشأنها.
وإذا تعذر للجان الوطنية حل المشكلات، ترفع الموضوعات إلى آلية دولية محايدة من ثلاثة إلى خمسة أشخاص يعملون كمحكمين، لهم السلطة في اتخاذ القرار السريع والنهائي والملزم للجميع.
وأعتقد أن هذا الاقتراح يعطي الدول الثلاث الفرصة الأولى لإدارة وحل المشكلات بالتشاور والتعاون كلما أمكن، ويوفر هيئة محايدة لمعالجة وحسم ما يتعذر حله بين مصر والسودان وإثيوبيا.
3. أما العنصر الثالث والمكمل لهذا الاقتراح، فهو طرح مشروع مائي واقتصادي دولي على غرار مشروع مارشال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مخصص لدول حوض نهر النيل كلها، وعلى رأسها إثيوبيا والسودان ومصر، والهدف الأول منه توفير الاستثمارات والتكنولوجيا لضمان رفع كفاءة استغلال مصادر المياه المختلفة وليس فقط الأنهار، وتطبيق إجراءات للاستخدام الفعال للمياه في كافة المجالات التي تستخدم فيها المياه تقليدياً، بما في ذلك رفع كفاءة الإنتاج الزراعي، وتوليد الطاقة بمستويات أفضل، بحيث يتم وضع حلول مستدامة، ولعلها تكون بداية تنموية لعلاقات إقليمية وثيقة بين دول شرق أفريقيا والبذرة الأولى لمنظمة إقليمية تنموية تجمعها، وتشجع على مزيد من التعاون على المستوى الأفريقي.
وختاما أعيد وأكرر أن هناك حلولاً متاحة لتحقيق الأهداف المشروعة للأطراف المعنية، إذا كانت تنموية واقتصادية، وإنما من المهم كذلك اليقين بضرورة التوصل إلى حل لقضية سد النهضة بعجالة وحسم. فقد وصلنا إلى مفترق الطريق بين الحل السلمي الذي يخدم الجميع، وبين المواجهة القاسية والصدام الحتمي، الذي يحمل في طياته مخاطر وتداعيات الكل في غنى عنها.
* نقلاً عن اندبندنت عربية