أميركا وجيفرسون.. المصالحة هي الحل
2020-06-15
إميل أمين
إميل أمين

يخبرنا الفيلسوف الفرنسي الشهير أدغار موران بأن الأمم الكبرى لا تتذكر لحظات الانتصار فقط، وإنما أيضا أوقات الانكسار، لا برغبة مازوكية تهدف إلى جلد الذات، بل لمراجعة الماضي واستلهام العبر واستخلاص العظات والدروس من أجل عيش أكثر كرامة.

كيف يمكننا أن نصف ما يجري في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر؟

مؤكد هناك حالة ضبابية تسود، لا سيما في ظل اختلاط الأوراق المثيرة للجدل، ما بين مواجهة العنصرية، وإحياء نعرات الكراهية والعصبية.

مقتل جورج فلويد في حقيقة الحال، ومن بعده أكثر من حالة مشابهة، أجج نارا مشتعلة في الداخل الأميركي منذ أمد بعيد، غير أن الأعوام الثلاثة الماضية تصاعد فيها المد العنصري بصورة مقلقة، ربما لأسباب عديدة منها ما هو اقتصادي، والبعض الآخر سياسي، وهناك دوما جذور للماضي الذي لا يموت.

بعض صور الاعتراض على الماضي العنصري الذي انتهى بقوة الدستور الأميركي، وإن بقت حزازات الصدور، كما قال شاعر العرب الأخطل ذات مرة، مضت في طريقها للتعبير عن احتجاجها بتحطيم تماثيل الأمريكيين ذوي الصلة بالعبودية، وهذا ما حدث عام 2015 في مدينة " شارلوتسفيل " بولاية فيرجينيا ، عندما أقدم بعض الأفرو أمريكان على هدم نصب تذكاري للجنرال "روبرت لي"، والذي يعد أحد علامات العنصرية في التاريخ الأمريكي، وقد كان من المؤيدين للعبودية.

مرة أخرى هذه الأيام تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام استحقاقات ما يمكننا أن نسميه ثورة التماثيل، وقد بلغ الأمر بمطالبة نحو ثلاثة آلاف طالب في جامعة ميسوري بإزالة تمثال الرئيس الأمريكي الأسبق "توماس جيفرسون"، والذريعة هنا أنه يقع في طريق آلاف الطلاب السود الذين يمرون من أمامه كل يوم ومجبرين على النظر إليه، وهو الأمر الذي يخل بقيم المساواة والتنوع، انطلاقا من أن جيفرسون كان "مالك عبيد في الماضي".

هل وصل الأمريكيون الى نقطة مفصلية في تاريخهم تقتضي منهم إعادة قراءة السردية الأمريكية؟

ربما يكون ذلك كذلك بالفعل، لكن السؤال بأي لغة سوف يعيدون القراءة، لغة التسامح والصفح، أم لغة الانتقام والثأر؟

لا تبدو الإجابة واضحة، لا سيما وأن الأمر بات يطال رموزاً أمريكية راسخة في الضمير الجمعي الانجلوساكسوني، فعلى سبيل المثال يعد الرئيس توماس جيفرسون الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية رئيسا غير اعتيادي ، فهو اول وزير خارجية لبلاده في عهد أول رئيس جورج واشنطن، وهو من أشرف على استكشاف أراضي الغرب الأمريكي الواسعة الشاسعة، فضلا عن ذلك هو من قام بشراء أراضي ولايات شاسعة مثل لويزيانا من فرنسا.

جيفرسون الرجل الذي يحاول الطلاب الأفارقة إزالة تمثاله كان أحد رواد عصر التنوير الأمريكي، رجل متعدد الثقافات ، يتحدث خمس لغات، شديد الاهتمام بالعلوم والاختراعات، بالاديان والفلسفة، وهو من أسس جامعة فيرجينيا على ساحل الأطلسي.

في مؤلفه الشهير والكبير "جيفرسون وفن السلطة"، الحاصل على جائزة بوليتزر الأمريكية ، يخبرنا "جون ميشام"، بان جيفرسون كان رئيسا مثيرا للتأمل، مهتما دوما بالصراعات التي تحدث من حوله ، يتعلم من أخطائه وينتصر في النهاية ، وفهمه للسلطة وللطبيعة الإنسانية مكنه من قيادة الرجال وتوحيد الأفكار.

قاد جيفرسون الأمة الأمريكية في وقت التحزبات الشرسة والصراع الثقافي والتغيرات الاقتصادية والمخاطر الخارجية ،ولهذا فإ قصته تعوز الأمريكيين اليوم من أجل قيادة أمة تسعى لتحقيق العظمة في عالم صعب ومعقد .

السؤال الخطير: "هل يمكن للبيض الأمريكيين قبول مثل هذا الطلب من الطلاب الأمريكيين الأفارقة، أم أنها رغبة معززة لنيران العنصرية المقابلة، ما يدخل الولايات المتحدة فيما يخشاه الجميع من صراعات أهلية تبدو علاماتها في الأفق؟

في حادث تمثال الجنرال "لي" احتشد في مواجهة الأمريكيين السود الآلاف من البيض غير المتحزبين، أولئك الذين رفضوا هذا التوجه، ولولا حكمة من المسؤولين وقتها، لاشتعلت البلاد بصورة كبيرة، واليوم تتساءل بعض الأصوات: "ماذا لو صحا الأمريكيون على هدم تمثال جيفرسون أو ما عداه من رموز الآباء المؤسسين البيض، والذين امتلكوا العبيد السود قبل ثلاثة قرون كنظام اجتماعي اعتيادي وقتها، وقبل أن يقوم رجل أبيض "ابراهام لنكولن" بتحرير السود من ربقة نظام العبودية؟

الكارثة وليس الحادثة هنا تتمثل في رد الفعل المتوقع من التيارات اليمينية العنصرية الأمريكية وجلها مسلح تسليح عال وبدرجة مخيفة.

سيكون من الطبيعي أن يتشظى الأمريكيون حول من مع ومن ضد، وهنا ستطفو على السطح تيارات يداريها ويواريها الأمريكيون على قلتها، لكنها حكما سوف تكتسي لونا زاهيا مثيرا للاقتراب منها والانتماء إليها، وتبدأ دوامة الغضب العرقي والعنصري التي لا يمكن أن تهدأ نيرانها إلا بانهيار البلاد ومأساة العباد.

هدم التماثيل ليس هو الحل أو نهاية المطاف ، المهم الوصول لأجوبة جذرية وتغييرات وتعديلات قانونية تتيح الفرصة لإنهاء أي شوائب في الحاضر من إرث الماضي البغيض، وإنهاء أي ممارسات لا أخلاقية يقع عبئها على الرجل الأمريكي من أصل إفريقي.

لن يتوقف الجدل عند تماثيل الساحات، ولكنه حكما سيمتد إلى أسماء شوارع أمريكية شهيرة، بعضها تطلق عليه أسماء يراها البعض عنصرية الأصل، فهل سيتم إجبار الولايات على تغييرها؟

رد الفعل المتوقع من الرجل الأبيض سيكون كارثة حتما، وبخاصة وهو يرى التغيرات الديموغرافية تمضي في اتجاه جعله أقلية بحلول منتصف القرن الحالي، وهنا تبدأ قصة توازنات مريرة ومخيفة.

أمريكا أمام استحقاقات رئاسية صعبة، وتحتاج إلى البناء لا الهدم، والحوار لا العنف.

* نقلاً عن العربية نت



مقالات أخرى للكاتب

  • أميركا: انتخابات الرئاسة وحديث البدائل
  • بايدن مأزق للديمقراطيين أم لأميركا؟
  • متلازمة التعاسة.. بعيدًا عن السياسة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي