العنصرية جريمة وليست وجهة نظر؟
2020-06-10
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

نعيش اليوم في عالم شديد الخطورة، لأنه لا يأبه بما يقع من حوله، بل يعتبره لا حدثاً في مجتمعات تُنخر من الداخل، وسيأتي زمن تصبح فيه هذه الممارسات الخطابية والتجاوزات سبلاً وعلامات لحروب مدمرة للنسيج المجتمعي، حيث تتنامى الكراهيات وتكبر وتتسع، وتدفع بالأقليات الملونة إلى إنشاء ردود فعلها التي لا يستطيع أحد أن يتصور شكلها سوى أنها ستكون مدمرة.

المسألة ليست شكلية، لكن لها عمق داخلي لا يراه ساسة اليوم في فرنسا وأمريكا، بينما يكبر ويتسع بلا قوة تردعه وتعيده إلى جادة الضوابط القانونية، إذ لا قوة غير قوة القانون تستطيع ردع هذا الغول الذي يتسع كل يوم أكثر، وقد يقود إلى هولوكوست أفظع من الأول، مدمر لكل ما بنته البشرية من حضارة.

التنبيه عليه هو التنبيه على رهانات المستقبل التي أصبحت في خطر حقيقي، إذ إن مقتل شابين، أداما تراوري أو جورج فلويد، بطريقة شديدة البشاعة وخارج كل سبل قانونية أو إنسانية، يعطينا صورة أولية عما يساويه الإنسان. نعم، الشرطة تتحمل مسؤولية ما تقوم، لأنها مؤسسة دولة تخضع لما تخضع له بقية المؤسسات الأخرى، من محاسبة ومقاضاة، لكن المسألة أكبر من خطأ شرطي، أو عنصرية شخص أو مجموعة.

المناخ العام الذي عاشته فرنسا في السنوات الأخيرة ابتذل العنصرية وجعلها تتخطى عتبات المنع والإقدام على الجريمة. وإلا لولا هذا الوضع العام، ما نعت صحافي من BFM TV على الملأ، وبخطأ تقني، موتى الكوفيد الصينيين بالبوكيمون؟ وما يزال إلى اليوم يحلل في نفس القناة وكأن شيئاً لم يحدث؟ هذا يحمل اسماً واحداً هو اللاعقاب.

سيول البشر التي شاركت في المظاهرات بتلك القوة ما كان يمكن لتكون لولا استفحال الوضع العنصري في فرنسا وأمريكا. يكفي أن نتأمل المناخ الذي نبتت فيه هذه الجرائم وغيرها، لندرك أن المسألة تتجاوز ما نعيشه وما نراه وبلا عقاب يذكر. بل إن هناك بعض الممارسات تجد تشجيعاً عن قصد أو عن غير قصد، من طرف القنوات التلفزيونية وخطابات بعض المسؤولين. فقد ابتذلت العنصرية لدرجة أن أصبحت لا تعني شيئاً، ولا تخيف من يمارسها، يلهج بها كل من يشاء، وقت ما يشاء من دون رادع قانوني.

لا يكفي أن القانون يعاقب العنصريين، ولكن تطبيقه هو المهم، لأن ذلك سيجعل من يمارسه يحسب كلماته بدقة. طبعاً، يجب ألا نفترض أن في الجهة الثانية من المغاربيين والإفريقيين، من فرنسيي الجيل الثالث والرابع، لا يوجد إلا ملائكة ظلموا، لا وجود للملائكة على سطح الأرض، ولكنهم بشر عرضة لعواصف التكوين والتربية. ربما سيكون الأمر جدياً لو طرحت قضية هؤلاء في سياق المسؤولية الفرنسية وحتى الأمريكية التي لم تستطع أن تفرض نموذجها للمواطنة، فاختارت الثنائية العنصرية السهلة، المواطن العالي والمواطن السفلي.

الأول، نظراً لظروفه المعاشية والتكوينية، لا يسمح بأن يسلب حقه ويقاتل من أجله، بينما المواطن الثاني؛ أي السفلي، هذا لا حق له، الغارق في الأحياء الإسمنتية التي تشبه الغيتوهات التي تتجمع فيها أنماط بشرية يقع أغلبها خارج الحق.

وليست سوق المخدرات المنتشرة وغيرها من الأوبئة الاجتماعية إلا أشكالها الظاهرة. من يتتبع حركة العنصرية وتناميها في المجتمعين الفرنسي والأمريكي سيلاحظ ببساطة أن الظاهرة انتشرت بشكل مفجع، في أمريكا منذ أحداث 11 سبتمبر، بينما في فرنسا اتسعت رقعتها بالرئيس نيكولا ساركوزي الذي واجه انتفاضات الضواحي بلغة عنصرية ألهبت المتظاهرين من أجل حقوق مبررة في الجوهر.

استعمل مصطلحات شديدة الخطورة ضد سكان الأحياء الشعبية التي يقطنها أفارقة ومغاربيون، وحملهم كل ويلات المجتمع، واضعاً على جنب الطبيعة البنيوية للمجتمع الرأسمالي التي أفرزت هذه الوضعيات. مع أن الكثير ممن احتقرهم ساركوزي وقتها كانوا فرنسيين قبله تاريخياً، لأنه هو أيضاً ابن الهجرة اليهودية، لكن للأسف، هذه الهجرة التي كان يفترض أن تربي إحساساً بالانتماء إلى هذه العينات في كونها مظلومة، وبالتالي دعم الصرامة القانونية ضد الظلم، فأصبحت العنصرية جزءاً من اللغة اليومية بلا رادع حقيقي. ومن يعرف التاريخ ليس في حاجة إلى معرفة ما قدمة الأفارقة والمغاربيون لفرنسا في الحربين العالميتين، الأولى والثانية، ولم يقدروا حق تقدير لما قاموا به. الكثيرون ماتوا دفاعاً عن الراية الفرنسية وهم يحلمون أن بلدانهم ستتحرر أيضاً بعد اندحار النازية. وكان فيلم بوشارب «الأهالي Les Indigènes» قد فضح ذلك النسان القصدي والإهمال الذي ينام على عنصرية غير مدركة لأسباب استعمارية يطول شرحها، حيث ابتذلت وانتهكت قيمة الآخر حتى أصبحت لا تعني شيئاً أبداً.

الميراث الاستعماري الذي لم تتخلص فرنسا منه كلياً، ما يزال يحفر في اللاشعور الجمعي، ويحتاج الأمر إلى غرس قيم بديلة، في مدرسة جول فيري العلمانية، واستدعاء ثقافة إنسانية أخرى تجرم الاستعمار، لا بطمس الحقيقة التاريخية التي يعرفها الجميع ولكن بالاعتراف بها، من أجل تشييد مجتمع التسامح وليس العنصرية. هذا الإحساس العميق هو الذي دعا الرئيس المرحوم جاك شيراك آخر الديغوليين الأوفياء للجنرال، إلى الاعتراف الرسمي بالتقصير في حق من قدموا أرواحهم دفاعاً عن فرنسا في الحربين العالميتين، وتحسين أوضاعهم المادية.

وكما قال الكثير من السياسيين الفرنسيين، ومنهم وزير الداخلية، كريستوف كاستنير، قبل أيام قليلة، إن العنصرية ليست وجهة نظر، ولكنها جريمة يجب أن يعاقب عليها القانون. المشكلة الكبرى هو أن ذلك يظل على مستوى الخطاب فقط.

ماذا نقول عن شخصية مثل إريك زمور، الذي طرد من الكثير من القنوات التلفزيونية كمعلق، بسبب عنصريته البغيضة التي لا يخفيها، لتستقطبه قناة أخرى بلا عقاب ولا ردة فعل رسمية، وتتحول العنصرية بالفعل إلى مجرد وجهة نظر وليس جريمة؟ يشتم بلا رادع حقيقي، كل من ليس هو، لدرجة أن أصبح الملايين من الفرنسيين العرب والمسلمين والأفارقة هم سبب الكوارث والانهيارات الاقتصادية، بينـــــما يعرف الجميع أن الإيتابلشمنت في فرنسا وأمريكا، يتحمــــل المسـؤولية الكبرى في الخيارات الاقتصادية التي أدت إلى الانهيارات المدوية التي نراها اليوم، وأنه ليس العامل البسيط المكلف بجمع القمامة كل صباح، أو الذي يحفر الأنفاق تحت الأرض، المعرض للموت في كل ثانية، أو العامل الذي يحرك رافعة من عشرات الأمتار المعرضة للسقوط في أية لحظة بسبب الرياح الموسمية القوية، أو العامل في الخرسانة الذي يعود مساء وهو يفكر في كيفية إنقاذ ابنه من سوق المخدرات التي تتم تحت سكنه، في أقبية البنايات الإسمنتية التي حالت ألوانها وتخرمت حيطانها، وسكنتها الفئران، ولم ترمم.

هؤلاء المستضعفون ليسوا سبب الداء الحقيقي، ولكن فشل الطبقات السياسية التي جعلت من ثقافة احتقار الآخر والعنصرية ممارسة شبه رسمية قد تؤدي بهذه البلدان إلى مهالك كبيرة إذا لم يتم التفطن إلى خطرها المحدق.

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي