الإنسان لا شيء أمام عاصفة الحياة
2020-04-28
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

كلما امتد الانكفاء على النفس واتسعت العزلة، تقلّصت العلاقة مع الحياة وأصبحت الحيرة سيدة التفكير، والأسئلة الكثيرة هي المآل. في أي شيء كان سيدنا موسى عليه السلام يفكر وهو ينفصل عن قومه الذين عبر بهم البحار والصحاري، ويدخل في حالة انكفاء في انتظار أن يجيبه الله عن أسئلته، ويتلقى وصاياه العشر؟ في ماذا كان يفكر الرسول الأكرم وهو يتخفى في غار حراء، بعيداً عن عين الرقابة، لسماع نداءات الحق؟ بل في أي شيء كان أبو حيان التوحيدي يفكر وهو يقدم على حرق كل كتبه، وينفصل عن العالم ويعيش في عزلة كلية، بعيداً عن عالم التقرب والتزلف والانفتاح على حياة أخرى في داخله ولم يجد لها الوقت الكافي لكي يتعلم منها، ويكتب الإشارات الإلهية.

في أي شيء كان ابن خلدون يفكر وهو ينعزل عن عالم بشع وقاتل ظل يطارده، ويفر إلى مغارة فرندة، وهناك ينكفئ بشكل غير مسبوق ويشرع في كتابة مقدمته العظمى. في ماذا كان يفكر سيدي أبو مدين الغوث وهو ينفصل عن عالمه في منطقة العبّاد وهناك يموت، على حافة حاضرة تلمسان.

في أي شيء كان يفكر سيرفانتس وهو ينفصل عن العالم الذي يئس منه، في مغارة سيرفانتس في العاصمة، ويبدأ في التفكير في كتابة العلامات الأولى من دون كيخوتي التي دوّنها لاحقاً في سفر عظيم. في ماذا كان يفكر الأمير عبد القادر وهو ينفصل بشكل كلي ويعتصم في غار حراء، مقلداً اللحظة الرسولية، ليعود من مكة مشبعاً بروح الشيخ الأكبر، ابن عربي. هؤلاء وغيرهم، نتعلم منهم كيف نجعل من الانكفاء وسيلتنا لعناق حياة أخرى، مضمرة فينا.

أفتح عينيّ وسط سكينة الأشياء وكأني أكتشف العالم للتو، وكأني لم أعش على هذه الأرض أكثر من نصف قرن، وكأني لم أحفظ بعض تفاصيلها وقسوتها وأفراحها؟ أنتبه فجأة إلى أني أعيش في منطقة تسمى جزيرة فرنسا l’Ile de France أي باريس وضواحيها، التي كانت نقية نسبياً في بداية الوباء، أصبحت اليوم من أكثر الأماكن تعرضاً لانتشار الوباء، ويقدر المختصون نسب الإصابة فيها هي الأعلى في فرنسا. وهي اليوم ما بين 12 إلى 20 في المئة من المصابين من مجموع ساكنة المنطقة. وإذن، لماذا لا يحدث ذلك للآخرين فقط؟ كيف يمكنك أن تتفادى أن تكون ضمن الرقم اليومي المرعب للأموات، بين الـ 500 إلى 700 يومياً؟ وعندما تنزل الأرقام تشعر بسعادة وتنسى أنها حتى لو نزلت لواحد، هذا الواحد يمكن أن تكون أنت؟ أنت مثلهم، تحمل نفس الهشاشة التي لا ترحم. أنت تعيش بقلب كاد يتخلى عنك في 2007، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة وفق منطقه الخاص، ربما لأنه أدرك فجأة أنك تحب الحياة، فوق القدر العادي لكثير من البشر. في ماذا يمكن أن تفكر الآن؟ لن تختلف عن غيرك.

ستفكر كما الذين سبقوك. لا تفكر كثيراً في الموت، فهو موت عاطل مهما كانت تصوراتنا. سيعيد إلى التربة كل الكائنات التي كبرت وتجبرت، أو تلك التي ظلت بسيطة في حياتها تكتفي بالماء والسماء والهواء وتركض وراء غيمة الحلم التي كلما اقتربت منها فلتت من بين يديها.

تخاف مما يختفي في الموت، أن تنتهي بعيداً عن عطر صنع ذاكرتك، عن أمكنة فيها كل أصداء طفولتك، عن التربة التي ضمت أمك. أن تدفن في قبر يُنسى بسرعة؟ لن يكون لك حتى شرف الانتقال إلى قريتك الصغيرة، حيث أصدقاؤك الذين كبرت معهم، وخرجوا قبلك من هذه الدنيا، إما قهراً أو عزلة أو جنوناً. أنت ستدفن اضطراراً في مكان بارد لا تعرفه ولا يعرفك. أفهم اليوم لماذا اختار السينمائي والكاتب الكبير روجي حنين Roger Hanin في الجزائر العاصمة، وهو الطفل الذي نبت في باب الوادي، والتبس بكل تفاصيلها.

من يتذكر اليوم قبر ابن بوقاعة، رابح بلعمري الذي لم يجد أرضاً يتوسدها للمرة الأخيرة سوى المساحة الصغيرة التي منحتها له زوجته؟ من يتذكر قبر محمد ديب باستثناء الكمشة التي حضرت جنـــازته وكنت منها؟ فقـــد ظلت عائلته تبحث له في مقبرة العائلة عن أي قبر مجاور فيه من عطر وطنه، حتى وجدوا شاهدة كتب عليها «آيت» الـــتي تعني بالأمازيغـــية «آل»، فدفن بالقـــرب منه؟ هذا هـــو الخوف الصامت الذي يكبر في الداخل ولا يراه أحد سوى من يشعر به.

كل الذين انكفأوا خافوا أيضاً من مبهم ما، لكن هذا الخوف ظل ثانوياً في حياتهم بالقياس لما كان ينام في دواخلهم. الخوف من أن لا ينتهوا من قول ما هو بصدده؛ أي ألّا يصلوا إلى النقطة العميقة فيهم، أي البؤرة الضوئية التي يتلاشى فيها كل شيء ولا يبقى إلا الجوهر الذي لا يعرف التخفي.

عندما أطل من بيتي من مكتبي، في الطابق الأول، أرى حياً ميتاً مشلولاً ينتظر من يدفنه قبل الفجر، شارعاً مغلقاً، حزيناً وصامتاً. فجأة تكتشف أن الحياة بكل جبروتها مجرد احتمال صغير، وأن الشوارع تصمت أيضاً قبل أن تموت. كم يبدو الزمن بعيداً، بلا لغة ولا تاريخ، ولا ذاكرة أيضاً.

ترى السماء فتبدو هادئة، فارغة وبلا لون، تغزوها جحافل من الطيور وهي تستعيد حياتها الطبيعية التي سرقها الإنسان منها. ترى الغراب الأسود بمنقاره الطـــــويل وهو يقف على شجيرات الورد في حديقتك؟ تتساءل كما كـــنتَ تفعل في طفـــولتك: هل الغراب نذير شر؟ أين كان طوال العقود الماضية، في أي أرض اختفـــى؟ قبل خمسين سنة على الأقل كان الغــــراب يأتي، ينقر في ساحة البيــــت وينافـــس السنونو في حبات القمـــح القليلة التي سقطت على الأرض، ويمضـــي بسلام في فضاء كان له أيضاً.

فجأة غاب وغابت معه السنونو، والدرّيس، والحلاج، والمريقمة، ولهّاية الرعاين، بومنقار، الزاوش، وكل أصناف الطيور الجميلة. حتى الفراشات الملونة التي سرقت منها كل التدرجات وتحـولت فجأة أجنحتها إلى أكفان بيضاء، تعود بشيء من الفرح.

كم تبدو الأرض مرتاحة، تتنفس بلا خوف من الاختناق بالغازات السامة، بلا إنسان؟ كأن المدينة والتراب والفراغ تحرروا كلياً من البشر واستعادوا علاقتـهم بطبيعتهم التي لا تقبل بالفراغ.

يبدو الفيروس التاجي كأنه لحظة انتقامية تولدت من الطبيعة المسروقة نفسها، فقط ليعود السكان الأصليون الأوائل إليها، بعدما تخلصوا من بشر جاؤوها ضيوفاً بعدما طردوا من السماوات، وافتتحوا وجودهم بجريمة قتل، ليستمروا على هذه السيرة قتلاً وتدميراً وحروباً، ومهالك شتى، حتى لحظة تفاجأوا بخوف غير مسبوق، هز يقينهم وكل أسلحتهم الفتاكة وسفنهم الحربية: الإنسان لا شيء أمام عاصفة الحياة.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي