لويس سوبلفيدا من كرة القدم إلى الحب والسياسة
2020-04-22
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

موت لويس سوبلفيدا، المأساوي، بسبب فيروس كورونا في 16 ابريل/نيسان عن عمر ناهز السبعين سنة، كان قاسياً على كل محبيه، فقد أيقظ فيّ لحظة جمعتنا في لقاء دولي وحفل عشاء في مطعم ليدو مولان. فقد ظل في حالة سكون عالية على الرغم من فورته الداخلية. كان برفقة زوجته.

بدأنا الحديث بروايته الصغيرة والجميلة «العجوز الذي كان يقرأ الروايات الغرامية»، كيف أنه استطاع من خلال حالة إنسانية طارئة أن يبني عالماً ساحراً كأغلب كتاب أمريكا الجنوبية. كتبها من وحي الفترة التي قضاها بين هنود أمازونيا في 1988، عندما غادر سجن بينوشي وكان متعطشاً لاكتشاف الأرض التي حرم منها طويلاً بسبب الاعتقال. ما بقي راسخاً في ذاكرتي من تلك الجلسة هو عندما تعشينا سألته عن قصة الكتابة التي جاءها بالصدفة؟ من خلال قصة حب لطيفة كنت أعرفها جيداً.

فجأة كأنه وجد مساحته التي ظل طوال الجلسة غريباً عنها، وبدأ يقص رحلته الكتابية: كل شيء بدأ بقصة حادثة غلوريا، فهي أساسها وجوهرها. كان حلمي الكبير أن أصبح لاعب كرة قدم معروفاً، في الفريق الوطني التشيلي. المكان الوحيد لإبراز مواهبي هو الحي. وفي يوم من الأيام كنت متجهاً كعادتي نحو الملعب للتدريب، رأيت عائلة جديدة جاءت لتسكن الحي، ورأيت معهم مراهقة جميلة، غلوريا. اقتربت منها وأبديت استعدادي لمساعدتهم على نقل الأغراض.

رحبت بالفكرة هي والعائلة التي دعتني بعدها لحضور عيد ميلاد غلوريا، فوافقت. ولكن ذلك وضعني أمام أزمة: ماذا سأهدي شابة شديدة الدلع مثل غلوريا؟ كتاباً؟ لا يبدو أنها مهتمة بالقراءة والأدب؟ عطراً؟ أي عطر… ثم انتهى الأمر بي إلى إهدائها أحد أهم كنوزي. وذهبت يوم عيد الميلاد وقدمت لها الهدية الثمينة.

طلبت منها أن تفتحها في حضوري، فوجدت صورة لفريق كرة قدم تشيلي، وقالت لي ببرود شكراً. لكني طلبت منها أن تقلب الصورة على الوجه الثاني، كان به توقيع كل لاعبي الفريق الوطني 1972 الذي احتل المرتبة الثالثة عالمياً. قلت لها متحمساً، لقد قضيت وقتاً طويلاً أتصل باللاعبين حتى جمعت كل توقيعاتهم.

قالت ببرود: شكراً عزيزي لويس، لكنني لا أحب كرة القدم. سألتها: ماذا تحبين إذن، قالت: أحب الشعر كثيراً. منذ ذلك اليوم، رحت أقرأ الشعر بكثافة حتى أصبحت في عمقه، عاشقاً له، بل ومؤلفاً له أيضاً. كان اللقاء العابر مع غلوريا حاسماً، فقد حدد مسارات خرائطي في تحولي نحو الأدب، ولا أعرف اليوم ما إذا كان الأدب قد ربح شيئاً بدخولي الأدب، لكن الأكيد أن فريق كرة القدم خسر مهاجماً كبيراً.

ثم سألته عن ذهابه نحو السياسة التي تقف على الطرف النقيض من الأدب، قال: الحالة نفسها قادتني نحو السياسة. خياراتنا مبنية أصلاً على الحب. أنا من عائلة عمالية، كان والدي طباخاً كبيراً، وأمي كانت ممرضة. لم تكن طفولتي بائسة، بل سعيدة جداً. معظم سكان الحي كانوا إما شيوعيين أو اشتراكيين. حتى الكنيسة كانت لها وظيفة سياسية، فقد تحولت إلى فضاء لاجتماع الاشتراكيين والشيوعيين. في مرة من المرات حضرت تجمعاً كان ينشطه الشاعر الكبير بابلو نيرودا، وقال جملة ساحرة ما تزال تطن في دماغي: لا تتركوهم يسرقون منكم شبابكم ويحولونكم إلى عجزة قبل الأوان.

ثم سأل عريف الحفل الحضور من الشباب: من يريد أن يكون من الشبيبة الشيوعية؟ رفعت أصبعي وأنا لا أعرف لماذا، ووجدتني فجأة مع جماعة الشبيبة الشيوعية الذين منحوني بطاقة انخراط لأكون معهم. وطلبوا مني أن أكوّن خلية في حيي، في مدينة سانتياغو. وهو ما قمت به. كان المجتمع مسيساً أصلاً. ونظمت معرضاً للصور من خلال مجلتي الاتحاد السوفييتي وكوسموس. دخل عليّ، أيام المعرض، رجل سألني من أكون، ولماذا فعلت كل هذا؟ قلت له، أنا شاب شيوعي، وأؤمن بالمستقبل العلمي للبشرية. فقال اعتبرني رفيقك. من يومها أصبحت خليتنا تتكون من شخصين، قبل أن تكبر بسرعة.

لم تكن لدينا راحة حتى في أيام الأحد، إذ كنا نساهم في العمل التطوعي لبناء الجسور، والحارات، والتنظيفات. العلاقة مع المجتمع كانت مبنية على الحب. حب الوطن شيء خارق، هكذا كنا نراه بحماستنا السياسية. نسبة كبيرة من أصدقائي الشيوعيين أعدم أغلبهم في فترة انقلاب الديكتاتور أغوستو بنوشيه على حكومة سالفادور أليندي الشرعية. كنت في المجموعة المقربة من اليندي GAP، كنا نجتمع في بيته وكان الرئيس يسألنا عن رأينا في المجتمع. كنا نسميه دكتور أو كماراد الرئيس. كان دائماً يريدنا أن نتكلم بحرية، ويوم الانقلاب صممنا أن نموت معه، لكنه رفض. الكثير من رفاقي ماتوا تحت قصف قصر مونيدا، بمن فيهم الرئيس، ومن بقي حياً تم أعتقاله، وكنت من بينهم.

وأعتبر نفسي اليوم وريثاً لهذه القيم النضالية العادلة والحقة. مازلت إلى اليوم بالروح الشبابية نفسها، ولكن من خلال الكتابة. أقوم بما قام به البير كامو أو مالرو. التعامل مع الواقع هو جزء من فعل الكتابة. لكن الخيال هو الإسمنت الحقيقي للعمل الروائي. التخييل يسمح للأدب بأن يخلق المسافات الضرورية لقيام النص الأدبي والخروج من عباءة الواقع. هذا يسمح لنا برؤية الواقع بشكل جيد، من خلال الاحتمال الأدبي وليس اليقين السياسي.

في الثلاثين من عمري حلمت بكتابة عمل تخييلي كلياً مثل جول فيرن، لكني لم أفلح لأني كنت مترسخاً في ثقافة المجتمع وتاريخه. رهاني في الأخير هو أدبي وليس سياسياً، ويشبهني كثيراً. النصوص التي لا تشبهنا ليست منا.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي