

أسمع أحياناً انتقادات حادة لنظام الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، خصوصاً ما يتصل منها بما جرى في السويداء ومع الدروز وما حدث في اللاذقية والساحل السوري ومع الأكراد ودعم بعض الأطراف أثناء الصدامات الطائفية، وأشفق على النظام الجديد في دولة عريقة قومياً مؤثرة سياسياً تواجه كثيراً من العواصف والأنواء بعد فترة قصيرة من سقوط نظام آل الأسد حافظ وبشار، وكل ما ارتبط بتلك الفترة من جمود سياسي وعزلة حقيقية وتشرذم بالمعنى الكامل للكلمة بين الطوائف الدينية والكيانات العرقية التي مزقت ذلك القطر العزيز على الأمتين العربية والإسلامية. ولأني أنظر إلى دمشق على أنها بداية عز الشرق، كما قال عنها أمير الشعراء أحمد شوقي، فإنني كنت دائماً منحازاً بالضرورة إلى الشعب السوري وتراثه الطويل وثقافته المؤثرة التي شكلت وجدان فيروز اللبنانية لتكون صوتاً عربياً ساحراً من الإذاعة السورية منذ مطلع خمسينيات هذا القرن، وهي تصدح بصوتها الملائكي تنادي من لبنان على سوريا ركيزة الشام الكبير وعاصمة الأمويين، وعلى رغم أنني أعترف بوضوح أن مصريتي ضاربة في جذور التاريخ بامتداد حضاري عاش العالم أحد مشاهده أخيراً مع افتتاح المتحف المصري الكبير، فإني أدرك أن الدولة العربية الحديثة هي سوريا البنيان منذ تولى معاوية بن أبي سفيان وضع اللبنات الأولى لحكم ذلك القطر العربي الجامح الذي تراكمت فوقه الثقافات وترسبت في أعماقه الحضارات فأصبح كياناً متميزاً. فالمزاج السوري هو صوت دمشق ولحنها المفضل، خصوصاً عندما كنّا نقرأ ونحن أطفال عن النضال الوطني السوري بقيادة سلطان باشا الأطرش لتحرير بلاده من الوجود الأجنبي، وكانت المواجهة سورية شاملة وليست درزية طائفية، فما أشبه الليلة بالبارحة على رغم تغير الظروف وتحول الكيانات وظهور قوى اجتماعية جديدة تشكل في جوهرها شخصية سوريا الحديثة.
لقد تدفقت مياه كثيرة عبر الأنهار وعرفت سوريا لحظات شديدة الأسى والحزن ولحظات أخرى رفعت فيها رايات العزة وألوية النصر، ونحن نتذكر اليوم أن قيادات الجيش العربي السوري هي التي فرضت على عبدالناصر الدخول في وحدة اندماجية سريعة إيماناً من أبناء الشام بأن مصر ركيزة عربية كبرى وأن ثقافة أدباء الشام ومفكريه قد قامت بدور حاسم في تكوين العقلية المصرية التي صاغها طه حسين لغة وفكراً، وتأثر بها واضعو اللبنات الأولى للثقافة العربية الحديثة من الشعراء والأدباء والمفكرين، لذلك لم يكُن غريباً أن تمضي العلاقات المصرية - السورية دائماً في تناغم وانسجام، واستقبل المصريون أشقاءهم السوريين أثناء أعوام اللجوء والنزوح من وطنهم العريق بفعل الاضطرابات السياسية والضغوط التي عاناها أبناء ذلك البلد العربي الذي تأسست فيه أول خلافة إسلامية، واستقبل الجميع وصول أحمد الشرع ورفاقه إلى سدة الحكم استقبالاً حسناً مقارنة بما مضى وأملاً في التغيير المقبل، وتعاطف المصريون مثل بقية الشعوب العربية والإسلامية مع المعاناة السورية خلال العقود الأخيرة، واستقبلت الدول العربية أبناء سوريا أثناء تلك الأعوام العجاف وعدّتهم دائماً إضافة إلى عالم المهارة الحرفية والذكاء التجاري والقدرة على مواجهة التحديات، وعندما دخل أحمد الشرع البيت الأبيض شعرت، على رغم كل المحاذير والاحتمالات، بأن الشعب السوري يتقدم الصفوف ويعيد بناء بلده في كبرياء وشموخ على رغم أعوام التعذيب والاضطهاد والمعاناة التي لم نكن ندرك حجمها إلا بعد سقوط النظام السابق. وأتأمل الآن لقطة تلفزيونية شاعت وانتشرت للرئيس السوري الشرع وهو يلعب "ماتش" كرة سلة تعبيراً عن بداية "شهر العسل" بين دمشق وواشنطن والغرب عموماً، ولعلي أطرح الآن بعضاً من التحديات التي تواجه ذلك النظام الذي انقسمت حوله الآراء بين مؤيد على الإطلاق وبين من يقبل في تردد خشية محاذير عدة وتحديات قائمة لا تزال تحيط بذلك القطر المهم الذي قيلت فيه العبارة السياسية الخالدة "إذا كانت لا تحدث حرب كبرى في غياب مصر، فإن السلام على الجانب الآخر لا يتحقق من دون سوريا"، ويمكن أن نوجز هذه التحديات عامة في الاحتمالات التالية:
أولاً، يجب أن نعلم جيداً أن إسرائيل لن تقبل بدولة سورية مستقرة وسوف تسعى إلى تعويق مسيرتها وتعطيل حركتها، مع أطماعها المعلنة باقتطاع أجزاء من أرضها حتى تلك التي تحددت باتفاق 1974 لفك الاشتباك بين سوريا وإسرائيل، إذ إن لإسرائيل أطماعاً مزدوجة في الأراضي السورية، خصوصاً في مرتفعات الجولان، فضلاً عن مخطط كامل لإحداث القلاقل بين الطوائف السورية المختلفة خدمة لها ومحاولة لتمزيق النسيج السوري والنيل من تماسكه، كما تسعى إسرائيل إلى دق إسفين دائم في علاقات دمشق بكل من موسكو وطهران وأنقرة، إذ إن أن ذلك يعطل المسيرة السورية الجديدة ويثير الغموض حول رؤية دمشق للمستقبل.
ثانياً، يتطلع النظام السوري الجديد إلى إقامة علاقات ثابتة بل وثيقة مع واشنطن بعد توتر وصعود وهبوط عبر العقود الماضية. وأظن أحياناً أن الشرع يحاكي بدرجة ما أسلوب الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي انتقل بمصر في اتجاه الولايات المتحدة الأميركية إلى ما يقارب 180 درجة لكي تصبح دولة صديقة بعد طول عناء. وتعلم الشرع من تاريخه الشخصي أن هناك مرحلة قد يندم عليها المرء، ولكنه يستطيع أن يبرأ منها ويحقق بغسيل الأشخاص ما حققه كثرٌ بغسيل الأموال. فالمرء ليس بالضرورة أسيراً لماضيه بقدر ما هو ابن لمستقبله، ولذلك فإنني أدعو إلى التعامل مع النظام السوري الجديد من منطق ما يفعل وليس بالحكم على ما فعل بعض أفراده من قبل. ولا شك في أن ترميم العلاقات التركية - السورية هو إنجاز بارز للنظام الجديد في دمشق، كما أن إدارته للصراع حوله تنم عن ذكاء وحنكة وشيء من الرصانة شرط ألا تتخلى سوريا عن التزاماتها القومية وشعاراتها العربية ومسؤولياتها في الصراع العربي- الإسرائيلي.
ثالثاً، إن الحكم على النظام السوري الجديد سيتأكد في المستقبل القريب من خلال إقدام دمشق على إقامة علاقات معينة مع إسرائيل قد تضمها إلى مجموعة السلام الإبراهيمي، وقد تضعها في موقع محايد يتلاءم مع عروبة الشعب السوري ومشاعره القومية. ولن تسلم سوريا أبداً من التحرشات الإسرائيلية في كل الحالات، فهي لا تريد لها أن تكون قوة سياسية مؤثرة أو كياناً عربياً فاعلاً، بل تأمل دائماً في أن تراها منقسمة على نفسها تعيش صراعات لا تنتهي حتى تحصد إسرائيل ما تريد.
رابعاً، إن السياسة المتوازنة التي يمضي بها الشرع تبعث على التفاؤل، فهو لا يجنح في اتجاه ضد الآخر، ولكنه يحتاج بالطبع في هذا الوقت إلى تكثيف العلاقات مع واشنطن ليس لرفع العقوبات عنه وعن بلاده وحسب، ولكن أيضاً لتأمين العلاقات مع تل أبيب، خصوصاً في الفترة التي لم يقف فيها الجيش السوري بقواه الكاملة وقدراته المنتظرة، وإن كنا نخشى أن تقع دمشق في محظور الخلافات العربية أو أن تفتح خلافاً مع دولة عربية كبيرة مثل مصر، إذ إنني ممن يعلنون أن محور القاهرة والرياض ودمشق هو محور أساس في هذه المرحلة، كما أن العلاقات السورية - اللبنانية تظل محوراً حاسماً له أهميته الخاصة بالنسبة إلى القطر العربي التوأم لسوريا، وهو الدولة اللبنانية الشقيقة بكل ما تمر به من معاناة وما تواجهه من متاعب، فضلاً عن حراس البوابة الشرقية في العراق وتأكيد وجودها دائماً ككيان عربي كبير.
هذه قراءة مبكرة في مسار سوريا وهي تمضي على الأشواك وتفتش بين الأسلاك لعلها تجد طريقاً آمناً في ظل المحاذير والأطماع والرياح العاصفة والتحديات الكبرى الواضحة، ولتظل سوريا منارة قومية كما عرفها العرب على امتداد تاريخهم الطويل ودولة متميزة كما عرفها أيضاً العالم كله.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية