كيف يفكر حكام إسرائيل؟
2025-09-22
مصطغى الفقي
مصطغى الفقي

اتسمت تصرفات اليهود تاريخياً بقدر كبير من المهارة وقسط وافر من الدهاء، وظل الأمر كذلك في مواجهة الدول الأوروبية وبعض الأقطار الشرقية إلى أن بدأت أطماعهم في وطن قومي، جرى تصنيعه وتخليقه وفقاً للأكاذيب التاريخية والافتراءات الدينية، وتمكنوا من الاعتماد على ركيزة تختلف من عصر إلى عصر، فاعتمدوا في البداية على الدولة العثمانية فلم يتحقق مرادهم، فاتجهوا مباشرة إلى الدول الغربية بعد "مؤتمر بازل" بنهاية القرن الـ 19 ووجدوا ضالتهم في بريطانيا، صاحبة الانتداب على أرض فلسطين الموعودة، وتمكنوا في النهاية من الحصول على "وعد بلفور" الذي قال فيه جمال عبدالناصر ضمن رسالته إلى الرئيس الأميركي الراحل جون كيندي "إنه وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق".

ومضت الأمور بتنفيذ "اتفاق سايكس-بيكو" وجرى تقسيم المنطقة في وقت كان اليهود فيه نشطون للغاية من أجل تحقيق هدفهم المنشود، فتوافدت قوافل المهاجرين إلى أرض الميعاد وتعددت المواجهات مع عرب فلسطين، وبدأ اليهود يمارسون تقاليدهم المعروفة بالترهيب تارة والترغيب تارة أخرى، حتى تزايدت نسبة وجودهم على أرض فلسطين.

 وعلى رغم ثورات العرب والفلسطينيين خلال ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته لكن اليهود تمكنوا في النهاية من رفع نسبة وجودهم في الأرض الفلسطينية، حتى قامت دولة إسرائيل بعد قرار التقسيم الذي أكد اعتراف الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين بدولة إسرائيل الصهيونية.

ظلت إسرائيل تعيش على وهم اخترعته ثم صدقته، ومؤداه أن العرب يريدون إلقاء إسرائيل في البحر، وأن مصر عبدالناصر تقود حينذاك حملة إعلامية تسعى إلى تدمير صورة إسرائيل وتحجيم انتشارها، خصوصاً في الشرق الأوسط وأفريقيا، وعلى رغم أن شعار إسرائيل التقليدي (إن أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) كان مطروحاً، لكن الجميع لم يعطوه ما يستحق من اهتمام، فإذاً تلك هي خلفية الدولة الصهيونية لابتلاع الأرض وطرد أهلها وتغيير معالمها حتى يكون خروج العرب بلا عودة.

وعندما تغيرت الأوضاع في مصر منذ عام 1952 تغيرت لغة اليهود على الجانب الآخر الذي كان يمثل دور الحمل الوديع أمام الذئاب المفترسة على الجانب العربي، فخاضت مصر حروباً شارك فيها أشقاؤها بدءاً من حرب 1956 عندما وقع العدوان الثلاثي بعد تأميم عبدالناصر قناة السويس، ثم كارثة عام 1967 بالهزيمة التي تعرض لها العرب وانتهت باحتلال أجزاء كبيرة من الأراضي الفلسطينية والأردنية والسورية والمصرية، ولم تقم الولايات المتحدة الأميركية في ذلك الوقت بمناصرة العرب أو حتى استخدام لغة عاقلة وهادئة معهم، فانتهى الأمر بدخول جيش مصر حرب الاستنزاف الذي كان بحق نموذجاً للبسالة والقدرة على الفناء من أجل الأوطان، حيث أبلى الجندي المصري بلاء رائعاً، وختم الأمر بحدوث المعجزة وعبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية للقناة، وانهيار الأسطورة التاريخية لجيش إسرائيل الذي لا يقهر.

يهمني أن أسجل هنا أن إسرائيل في تلك الفترة كانت حريصة على أن تمثل دور الدولة الضحية التي تريد أن تتعايش مع جيرانها ولكنهم يرفضون، واستمرت ترفع شعار الوطن الضائع والشعب العائد إلى أن دخلت المنطقة أجواء السلام، واستطاع اليهود اختراق معاقل القرار السياسي العربي وتحقق لهم ما أرادوه، حتى وصلنا إلى ذلك الربيع المفقود وأعني به "الربيع العربي"، إذ لم يتمكن أحد من إدراك التصور الإسرائيلي لمستقبل الصراع القائم، وتصورنا أو توهمنا أنهم يريدون التعايش مع الآخر ويسعون إلى التطبيع المتوازن، ولكن الأمر كان خلاف ذلك، فقد كانت أهدافهم قضم أكبر قطعة من الأرض العربية في فلسطين، متحدثين صباحاً ومساء عن السلام وكيفية تحقيقه ورغبتهم الشديدة فيه.

لقد حاولت دول عربية أن تتعايش مع الأوضاع الجديدة، وعلى سبيل المثال ما جرى عند زيارة بابا الفاتيكان لمصر وحديثه الرحب المتسامح عن دور مصر التاريخي في رفع المعاناة عن دول المنطقة وتوفير البدائل لشعوبها، وقد بنى الإسرائيليون نظرتهم بعد ذلك على مفهوم ضيّق لمصر يعادله على الجانب الآخر أطماع شديدة في ثروات الخليج، معتبرين أن المفتاح هناك هو السعودية وهذا صحيح، ولكن المشهد تغير كثيراً بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والعدوان المستمر على غزة، في إبادة جماعية وحرب إجرامية لا تزال المنطقة تكتشف خطورتها وحجم آلامها، بخاصة أن الشعب الفلسطيني الباسل قد أصبح مستحقاً عن جدارة "جائزة نوبل" في السلام، والتي يريد بعضهم منحها للإدارة المعادية للسلام في واشنطن، ونعني بها إدارة دونالد ترمب.

وفي ظني أن اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يتغطى بمسحة دينية ومكون رئيس في التفكير الصهيوني المعاصر، يستخدم الأدوات كافة وكل الأساليب لتحقيق أغراضه، فإسرائيل لا يهمها حالياً صورتها في الخارج ما دامت تعتمد على الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، وبعض الداعمين في مراكز الحكم واتخاذ القرار في عدد من الدول الغربية، ولقد استخدم الإسرائيليون الأوراق المتاحة وغير المتاحة كافة، ونجحوا نسبياً في تصوير الكفاح المسلح ضد الاحتلال على أنه نوع من الإرهاب، بينما الإرهاب الحقيقي صناعة صهيونية وإنتاج إسرائيلي، لا يختلف عليه حتى أولئك الذين يعادون العرب ولا يتحمسون للقضية الفلسطينية، إلا أنهم يدركون في الوقت ذاته أن ما تمارسه إسرائيل جرائم عنصرية ومحاولات إبادة الجنس البشري، عبر القضاء الكامل على الفلسطينيين واقتلاع الشعب من جذوره التي نبت فيها منذ آلاف الأعوام، وهي بحق جريمة العصر وكارثة هذا القرن.

والعجيب في الأمر أن الإسرائيليين يكذبون دائماً ثم يصدقون أكاذيبهم، ويقنعون الداعمين لهم بأنهم الضحايا، وأن المسألة اليهودية تلخص في ذهنهم جريمة إنسانية كبرى ضد الشعب اليهودي في كل مكان، ولم تتورع إسرائيل في إلصاق التهم بغيرها وتحويل جرائمها إلى انتصارات وهمية، بينما يمارس نتنياهو دور أدولف هتلر بجرائم غير مسبوقة في التاريخ البشري، كما لو أن الفلسطينيين هم صانعوا الـ "هولوكوست" ومدبرو الجرائم التي مارستها بعض الجماعات الأوروبية ضد الأقليات اليهودية في أوروبا منذ العصور الوسطى، ونحن لا ننكر هنا أنه قد وقع عليهم ظلم في مراحل معينة من التاريخ، ولكنهم يقومون الآن بتصدير أضعافه إلى الشعب الفلسطيني، صاحب الحق والأرض والتاريخ، حيث قام اليهود بأكبر عملية تشويه صاخب لتصوير مأساة الفلسطينيين على أنها ليست جزءاً من كفاحهم المسلح ضد الاحتلال، والذي هو السبب الرئيس والأصل الحقيقي في كل ما جرى ويجري في الشرق الأوسط، على امتداد العقود الثمانية الأخيرة.

نلاحظ حالياً بوضوح أن القرار السياسي وبالتالي العسكري هو إفراز لعقلية محمومة ونفسية دموية شرهة، لأن قتل الأطفال وتجويع الصغار والكبار ومزيد من الدمار، إنما تعكس في مجملها مشاعر عدوانية ربما غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فتفكيرهم يقوم على الغطرسة وتطبيق سياسة القهر والعقاب الجماعي، وتصدير خطاب الكراهية الذي سيبقى في ضمير الأجيال ما بقي الشعب الفلسطيني حياً، وما ظلت إرادته متماسكة وإيمانه مطلقاً، وتمسكه ثابت بأرضه وحقه، ولن يدوم ترمب إلى الأبد، ولن يبقى نتنياهو على المسرح السياسي يعربد وحده، فالتاريخ يعلمنا أن التعصب والعنف والعدوان مظاهر عابرة لا تستمر طويلاً، بخاصة أن صمود الشعب الفلسطيني خلال العامين الأخيرين تجاوز حدود الممكن، وبدا لكل ذي عينين أنه ماض في طريقه يواصل الجهاد المقدس دفاعاً عن شرف العروبة والإسلام، ويلخص الإرادة الحرة للشعوب المقهورة في كل مكان، ولقد نجحت إسرائيل في تصوير دولتها العنصرية العدوانية كفزاعة لشعوب الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي، نتيجة التصرفات الإجرامية غير المسؤولة لحكامها حالياً، والطريقة الدموية التي يفكرون بها.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • الدولة الوطنية والطوائف الدينية
  • شريعة الغاب والإفلات من العقاب!
  • ثورات الربيع العربي والقضية الفلسطينية    







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي