مزاج الأمم وشخصية الشعوب
2025-10-20 | منذ 3 ساعة
مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

عندما كنت أرقب ذلك التجمع غير المسبوق من قادة الدول وممثلي شعوبها في منتجع شرم الشيخ المصري، انتابني شعور قوي بأننا ننتمي جميعاً إلى مخزون إنساني واحد، فعلى رغم اختلاف الثقافات وتباين الهويات وتعاقب الحضارات، فإن ما نشهده يؤكد ولا شك وحدة الجنس البشري، وأن لدى الإنسان في كل مكان وزمان نوازع ثابتة يتقدمها الحذر والخوف ويمضي وراءها ذلك الشعور الغامض بأننا جميعاً في قارب واحد يبحث عن مرفأ آمن يلوذ به للخلاص.

هنا ألفت النظر إلى أن أمزجة الشعوب مختلفة وفقاً لهويتها وتراثها وموقعها الجغرافي، فالدول التي تعتمد على ثقافة النهر cult of river تختلف عن تلك التي توصف بأنها ثقافة الصحراء cult of desert وهذه ليست تفرقة حدية، ولكنها توضح دائماً الفوارق المعتادة بين الأمزجة المختلفة للشعوب المعاصرة، ونحن نظن أيضاً أن مزاج الأمم وشخصية الشعوب يرتبطان معاً بالزمان والمكان والسكان في كل فترة تاريخية مع طبيعة المكونات الأساسية للبشر في البقاع المختلفة من عالم اليوم.

لو تأملنا من كانوا يجلسون على المقاعد العليا في مؤتمر شرم الشيخ للسلام بمصر الذي كان نجمه المسيطر الرئيس الأميركي دونالد ترمب بكل ما له وما عليه، إذ كان يبدو وكأنه شيخ قبيلة العالم يوزع الآراء والأفكار ويقلب القرارات، بل القفشات الساخرة أيضاً، ولقد تساءلت بيني وبين نفسي هل هذا الرئيس يمثل شريحة كبيرة من المجتمع الأميركي فهو لا يحترم إلا منطق القوة سواء كان ثراء فاحشاً أو قوة عسكرية أو تقدماً علمياً هائلاً، وشعرت في النهاية بأنه شأن معظم الأميركيين يعشق الأقوى ويجنح نحو السيطرة ويحكمه إلى حد كبير شعور ذاتي بالتميز والاختلاف عن الغير، والآن دعنا نبحث في بعض العوامل المؤثرة في مزاج الأمم وشخصية الشعوب ونذكر منها النقاط التالية:

أولاً، إنني أشتم في حذر شديد بعض المحاولات الخبيثة لترجمة التضامن الإسلامي ودمجه في مفهوم الوحدة العربية كما لو أنه انتقاء ذاتي، المقصود منه الإثارة ورفع درجة الاستعداد الديني لدى الأطراف كافة، فالحديث المتكرر حالياً حول التضامن العربي- الإسلامي في مواجهة التيار الذي يرى أن كل ما يجري على الأرض هو ملك لأصحابها وليس بالضرورة تخصيصاً محدداً لفرد من الناس أو جماعة من البشر، وهذه نظرة شائعة تتصف بدرجة من الغموض، جعلت من الصراع بين الأطراف المختلفة حول مساحة معينة من الأرض بدءاً من منتجع صغير وصولاً إلى دولة كبرى أمراً محفوفاً بالأخطار، يحتاج في الغالب إلى درجة عالية من فهم الآخر والارتقاء إلى مكانته.

ثانياً، إن الأغلب الأعم من المشكلات المعاصرة بين الدول إنما يقع تحديداً بين الجيران، ذلك أن أكثر من 80 في المئة من المشكلات تكون بين الدول المتجاورة، صراعاً على الأرض أو المياه أو مصادر الطاقة الأخرى، ولكن هناك صراعات من نوع آخر مثل ما تمثله المشكلة بين مصر وإثيوبيا حول مياه نهر النيل، حيث عمدت أديس أبابا إلى اتخاذ إجراءات أحادية متجاهلة دول المصب للنهر في مصر والسودان، مما ترمب خلال رئاسته الأولى إلى اتخاذ موقف متعاطف مع القاهرة لأن هناك اتفاقات تحفظ حقوق المصريين في مياه النهر مثلما هو الأمر بالنسبة إلى الدول الأخرى، وما زالت المشكلة معلقة بسبب التعنت الإثيوبي حتى إن كثيراً من علماء المياه والبيئة يعزون السيول التي داهمت السودان أخيراً إلى أسباب تتصل بأخطاء في الإنشاء والتشغيل للسد الإثيوبي الذي تنفرد أديس أبابا بكل ما يتصل به، متجاهلة حقوق دول الجوار والشراكة في مياه الأنهار، وفقاً لما تحدده مواد القانون الدولي في هذا الشأن.

ثالثاً، إنني ممن يميلون إلى أن النظام التعليمي في دولة معينة هو المسؤول بالضرورة عن تكوين الشخصية الوطنية وتحديد ملامح الهوية، فلو نظرنا إلى دولة أوروبية آسيوية بحر متوسطية هي تركيا، فسنكتشف على الفور أن التراكم التاريخي والعامل الجغرافي يشكلان معاً جزءاً كبيراً من هوية تلك الدولة ومكانتها التاريخية، ولذلك فإن انضمام دول إسلامية مثل تركيا التي عرفت عاصمتها آخر خلافة إسلامية إلى مجموعة الدول التي أسهمت بفاعلية في تشكيل مقترح ترمب حول مأساة غزة والأبعاد المعقدة للقضية الفلسطينية، ويكفي أنه رئيس إحدى دول حلف الأطلسي ويدين أهلها بالإسلام ويمثلون مزيجاً قوياً لسبائك الشرق الأوسط من ترك وكرد وعرب وغيرهم من القوميات الأخرى.

وسنكتشف أن شخصية المنطقة الواقعة من إيران شرقاً إلى تركيا غرباً بما تضمه من دول ذات ثقل في الثروة والتقدم هي ذاتها الدول التي تشكل قلب الإقليم العربي وخاصرة وجوده المتألق، ولذلك فإن الحديث عن هذه الأقطار العربية إنما هو حديث عن كتلة متجانسة من ناحية المزاج الإنساني والمسار التاريخي والموقع الجغرافي، ويكفي أن نتذكر بأنها كانت في يوم ما تحت مظلة واحدة هي الدولة العثمانية لقرون عدة.

 رابعاً، شعرت بشيء من السعادة بأن الحديث على لسان كل المسؤولين الغربيين يدور حول الدول العربية والإسلامية، مما يعني أن هناك صحوة روحية لأن الطرف الآخر يسعى إلى الزج بالدين في أطماع الاستعمار الجديد والسيطرة الأجنبية على المناطق العربية، فحتى نتنياهو مجرم الحرب والقاتل أمام كاميرات العالم كله لا يستحي أن يقحم ديناً سماوياً هو اليهودية في أخص شؤون الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك يعني على الجانب الآخر أننا يجب أن نكون حريصين في محاولات ذلك الطرف على تصوير الصراع على أنه ديني حتى ولو كان ذلك هو هدفه المعلن أو الصامت، فالدين شعور روحي خطر يقوم على فكرة الإيمان الذي لا يتزحزح، لذلك فهو سلاح ذو حدين يمكن أن يكون قاطعاً في التفرقة بين أصحاب الحقوق وأصحاب الأطماع، ولكنه يشكل أيضاً أداة سياسية يمكن أن تسمح لبعضهم بأن يسيطر ويتحكم في الآخرين، فالإسلام السياسي بكل ما له وما عليه يمكن أن يكون هدفاً إسرائيلياً لتلوين الصراع وإعطاء معطيات جديدة له على حساب الغير.

خامساً، إننا نعيش في منطقة عرفت كل ألوان العنف وأبشع صور المعاناة، فقد عرفنا القهر الاستعماري وعرفنا أيضاً محاولات استخدام الدين ضد مصلحة البشر لتبرير جرائم التنظيمات المتطرفة والجماعات الإرهابية، كما عرفنا أيضاً نمطاً من أخطر أنماط الاستعمار الجديد وهو الذي يكمن في محاولة اقتلاع شعب من جذوره والعدوان على تاريخه والعبث بمقدساته وتشويه صورته بأدوات عنصرية وعدوانية واستيطانية، ومع ذلك كله فما زالت هذ المنطقة الصامدة تبحث عن الاستقرار وتسعى نحو السلام، وكان لقاء شرم الشيخ الأخير (أكتوبر- تشرين الأول 2025) تعبيراً واضحاً عن التضامن العربي الإسلامي وقدرته على تحريك المواقف الدولية وتحويل عدد كبير من الدول إلى البوصلة الصحيحة في الاتجاه الذي يتسق مع الاستقرار والعدل والسلام الدائم.

إن المزاج العام بين الأقطار العربية والإسلامية يشير إلى استعادة الثقة بالنفس والإحساس بأن الضمير العالمي قد بدأ يتحرك أخيراً، وأنه على رغم أن إسرائيل هي الطفل المدلل للولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً في ظل رئيسها دونالد ترمب، فإن الأمر الذي لا خلاف حوله أن بسالة الشعب الفلسطيني وقدرته على تحمل أصعب الظروف قد أصبحتا أسطورة ستتحاكى بها الأجيال المقبلة وتجعلها شعاراً وتطلعاً إلى المستقبل، ونحن نرقب عن كثب ما سيدور في الأيام المقبلة وتأثيره في الصراع العربي- الإسرائيلي الذي سيطر على المنطقة لأكثر من قرن كامل.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • سوريا ودول الجوار
  • المأزق السياسي في غرب آسيا  
  • هل السلام ممكن في الشرق الأوسط؟  








  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي