الجوع قرار سياسي لا قدر اقتصادي
2025-10-23 | منذ 3 ساعة
لولا دا سيلفا
لولا دا سيلفا

إن الجوع ليس حالةً طبيعية في مسيرة البشرية، ولا قدراً محتوماً لا يمكن تجنّبه، بل هو نتيجة خياراتٍ اتخذتها حكومات وأنظمة اقتصادية اختارت أن تغض الطرف عن عدم المساواة، بل وتغذيه أحياناً.

النظام العالمي نفسه الذي يحرم 673 مليون إنسان من حقهم في غذاءٍ كافٍ، يُتيح في المقابل لطبقة محدودة لا تتجاوز 3000 ملياردير أن تستحوذ على 14.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

في عام 2024، كانت الدول الغنية وراء أكبر قفزة في الإنفاق العسكري منذ نهاية الحرب الباردة، إذ وصل إلى 2.7 تريليون دولار (2.02 تريليون جنيه استرليني). ومع ذلك، فشلت تلك الدول في الوفاء بالتزامها باستثمار 0.7 في المئة من ناتجها المحلي في مبادراتٍ ملموسة لدعم التنمية في البلدان الفقيرة.

نعيش اليوم ظروفاً تذكّر بما كان عليه العالم قبل ثمانية عقود، حين أُنشئت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو). لكننا، بخلاف ذلك الزمن، لا نواجه فقط تداخلاً مأساوياً بين الحروب والجوع، بل نكابد أيضاً أزمة مناخية متسارعة. أما النظام الدولي الذي وُضع للتعامل مع تحديات عام 1945 فلم يعد كافياً لمواجهة أزمات الحاضر.

لهذا، بات إصلاح منظومة الحوكمة العالمية ضرورة لا تحتمل التأجيل. فنحن بحاجة إلى تعزيز التعددية الدولية، وتوجيه الاستثمارات نحو التنمية المستدامة، وضمان قدرة الدول على تنفيذ سياساتٍ عامة فعالة لمكافحة الجوع والفقر.

ومن الضروري كذلك أن تشمل الموازنات العامة الفقراء، وأن يخضع الأثرياء للعدالة الضريبية. ويتطلب ذلك نظاماً ضريبياً أكثر إنصافاً يفرض ضرائب على فاحشي الثراء، وهي قضية نجحنا في إدراجها للمرة الأولى في البيان الختامي لقمة مجموعة العشرين التي استضافتها البرازيل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. كانت خطوة رمزية، لكنها تاريخية بكل المقاييس.

ندعو إلى تطبيق هذا النهج على مستوى العالم، في الوقت الذي نمضي فيه قدماً لتطبيقه داخل البرازيل. فبرلماننا على وشك إقرار إصلاحٍ ضريبي شامل، سيُفرض بموجبه للمرة الأولى حداً أدنى للضريبة على دخل الأثرياء، ما سيُعفي ملايين محدودي الدخل من دفع ضريبة الدخل.

خلال رئاستنا لمجموعة العشرين، قدمت البرازيل أيضاً مبادرة التحالف العالمي لمكافحة الجوع والفقر. وعلى رغم حداثة هذه المبادرة، فإنها تضم اليوم 200 عضو - 103 دول و97 مؤسسة ومنظمة شريكة. ولا تقتصر على تبادل الخبرات، بل تسعى إلى حشد الموارد وتأمين الالتزامات.

ونسعى من خلال هذا التحالف إلى تمكين الدول من تنفيذ سياسات عامة تقلل فعلاً من عدم المساواة وتكفل الحق في الحصول على غذاءٍ كافٍ. وهي سياسات تحقق نتائج سريعة، كما حدث في البرازيل حين جعلنا مكافحة الجوع أولوية حكومية في عام 2023.

تُظهر البيانات الرسمية الصادرة قبل أيام قليلة أننا نجحنا في انتشال 26.5 مليون برازيلي من براثن الجوع منذ مطلع عام 2023. كما أُزيل اسم البرازيل، للمرة الثانية، من خريطة الجوع الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، وفق ما ورد في تقريرها العالمي حول انعدام الأمن الغذائي. وهي خريطة ما كنا لنعود إليها لولا التخلي عن السياسات التي أُطلقت خلال ولايتيّ الأولى والثانية (2003 – 2010) وفي عهد ديلما روسيف (2011 – 2016).

وتقف وراء هذه الإنجازات مجموعة من الإجراءات المنسقة على جبهاتٍ متعددة. فقد عززنا برنامج تحويل الدخل الوطني ووسعنا نطاقه، ليصل اليوم إلى 20 مليون أسرة ويدعم 8.5 مليون طفل تبلغ أعمارهم ست سنوات أو أقل.

 

كما رفعنا التمويل المخصص لتوفير الوجبات المجانية في المدارس الحكومية، ما عاد بالنفع على 40 مليون طالب. ومن خلال شراء الدولة للغذاء، ضمنّا دخلاً ثابتاً لصغار المزارعين من أصحاب الأسر، وقدمنا في الوقت نفسه وجباتٍ مجانية ومغذية لمن هم في أمس الحاجة إليها.

إضافة إلى ذلك، وسعنا نطاق الدعم المجاني للغاز المستخدم في الطهي وللكهرباء المخصصة للأسر محدودة الدخل، مما أتاح للأسر هامشاً أوسع في موازناتها لتعزيز أمنها الغذائي.

ومع ذلك، لا يمكن لأي من هذه السياسات أن يكون مستداماً من دون بيئة اقتصادية داعمة. فعندما تتوافر فرص العمل والدخل، تضعف قبضة الجوع. ولهذا اعتمدنا سياسةً اقتصادية تعطي الأولوية لزيادة الأجور، الأمر الذي أدى إلى تسجيل أدنى معدل بطالة في تاريخ البرازيل، وإلى بلوغ أدنى مستوى من عدم المساواة في متوسط دخل الأسر.

لا يزال أمام البرازيل طريق طويل قبل أن تحقق الأمن الغذائي الكامل لجميع سكانها، لكن النتائج تؤكد أن العمل الحكومي قادر بالفعل على التغلب على آفة الجوع.

ومع ذلك، تعتمد هذه المبادرات على تحولاتٍ ملموسة في أولويات العالم: الاستثمار في التنمية بدلاً من الحروب، وتقديم مكافحة عدم المساواة على السياسات الاقتصادية التقييدية التي تسببت لعقود في تركّز الثروات في أيدي قلة، ومواجهة تحدي تغير المناخ مع وضع الإنسان في صميم الجهود.

ومن خلال استضافتها مؤتمر المناخ "كوب 30" في الأمازون الشهر المقبل، تسعى البرازيل إلى التأكيد على أن مكافحة تغير المناخ ومكافحة الجوع يجب أن تسيرا جنباً إلى جنب. وفي مدينة بيليم، نهدف إلى اعتماد إعلان حول الجوع والفقر والمناخ يعترف بالتأثيرات غير المتكافئة لتغير المناخ وبما له من دورٍ في تفاقم الجوع في مناطق معينة من العالم.

كما نقلتُ هذه الرسائل أيضاً إلى منتدى الغذاء العالمي، وإلى اجتماع مجلس قادة التحالف العالمي لمكافحة الجوع والفقر، وهما حدثان أسعدني حضورُهما في الـ 13 من أكتوبر (تشرين الأول)، في روما. إنها رسائل تُظهر أن التغيير ملحّ، لكنه أيضاً ممكن. فالبشرية التي أوجدت سم الجوع ضد نفسها، قادرة كذلك على ابتكار ترياقه.

 

*رئيس البرازيل

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس - الاندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

لا توجد مقالات أخرى للكاتب








شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي