الاقتصاد في الأمل: عن حقنا في التشاؤم التاريخي
2024-10-19
وسام سعادة
وسام سعادة

لا هو “مخاض” هذا الذي نتجرّع علقمه، لبنانيين وفلسطينيين وسوريين وعراقيين ويمنيين وسودانيين وليبيين ولا هي “ملحمة”.
إنما هناك، عند كل عتبة وفي أعقاب كل حدث وخبر، من لا يكلّ ولا يملّ، لا همّ له سوى التهوين على الذات بالافتعال، قل الابتذال، بحيث إنه لا يرى في الشرّ المتلاطم سوى بشارة خيرٍ مصبوب، يتحضّر ولو من بعد عبط وجدْب كي ينهمر ويحيينا بأريجه.
ولا يجد هذا الرهط في ما تنكب به المجتمعات سوى “مخاض” عسير يَتَسارعُ فيه التاريخ، مُفلتاً من دوّامات بلادته وركودِه، فتتلظّى الشعوب بالحمم والمآسي، وتُعصَف ذاكرتها والعمران، إنما تفتح بالنتيجة للمستقبل جادة، فسيحة، عامرة، لمفارقة وادي الدموع، والولوج إلى جنان التفاصيل الجميلة البسيطة.
لم يتعب المخاضيّون من ترداد الأشياء نفسها منذ عقدين وأكثر. قالوا الشيء نفسه عشية الغزو الأمريكي للعراق. إن سقوط نظام صدّام حسين من شأنه التدشين لعصر من الديموقراطية والليبرالية والبحبوحة والاستقرار في المنطقة. ثم كرّروا الشيء نفسه عند مواكبة انتفاضات الربيع العربي، مع فارق أول. إنهم تفاءلوا بأن بادرة التغيير أخذت تَشرئب من صميم المجتمعات. وفارق ثان، إنهم، وحالما وجدوا أنّ عثرات هذه الانتفاضات باتت أكثر من نافرة ومجهضة وما عاد صالحاً توصيفها بالمخاض، بدّلوا الوجهة، لأجل مزاولة نفس اللعبة. بحيث أخذوا يرون في قمع هذه الانتفاضات، أو ضرب حصيلة صندوق اقتراعها، مخاضاً لتحديث وعصرنة لا بأس بإعادة التعويل على انتظارهما من فوق إلى تحت، بالكرباج والهراوة، بعد أن فشلت محاولات استيلادهما من خارج إلى داخل، بالغزو النيو استعماري، ومن تحت إلى فوق، بالجماهير في الميدان وأمام صناديق الاقتراع.
باللامنطق نفسه، المتلهّف لرؤية الكارثة على أنها دليل على عودة الحياة للبلاد الميتة، جرى التعامل أيضاً، مع سياقات الحروب الأهلية الممتدة خارطتها من العراق وسوريا حتى اليمن، وصولاً إلى ليبيا والسودان. تصفير العدّاد. انقشاع وتبديد كل الأوهام وكل الشعارات. بحيث تستعيد المجتمعات المنكوبة، أما وقد استحالت إلى ركام وأشلاء، براءتها الأولى. بحيث يجري التلهّف لبراءة الورقة البيضاء المستعدّة لاستقبال قلم “روح العصر” المأمول من بعد طول غنج وسماجة ومكابرة عليه.


في القرن الماضي، انقسم أهل الأهواء العقائدية في منطقتنا بين رؤى مختلفة من الانتقال التاريخي المتخيّل والمقدّر،
القوميّون أعدّوا غنائياتهم لحركة الانتقال نحو الوحدة العربية الكبرى والماركسيون لحركة الانتقال نحو الاشتراكية

في القرن الماضي، انقسم أهل الأهواء العقائدية في منطقتنا بين رؤى مختلفة من الانتقال التاريخي المتخيّل والمقدّر، القوميّون أعدّوا غنائياتهم لحركة الانتقال نحو الوحدة العربية الكبرى والماركسيون لحركة الانتقال نحو الاشتراكية. الإسلاميون لحركة الانتقال نحو العودة إلى نموذج أصليّ، مصدريّ. في قرننا هذا، جرى الاستغناء عن كل هذا عند أهل الأهواء. انقسموا بين من يراها مخاضاً، وبين من يروها ملاحم من الكرامة والعزّة والسؤدد. وفي الحالتين ما عاد المهم الانتقال إلى ماذا. في الحالتين تقزّم الحديث عن الغد. فهو بمثابة تحصيل حاصل. المطلوب تقريظ الحاضر. الليبرالي وهو يراه مخاضاً. والممانع وهو يراه ملاحم تسطّرها شعوب لم يؤخذ في الأعم الغالب رأيها في مآلها هذا، في مصابها.

عندما انتفض البحارة والعمال في ألمانيا نوفمبر/تشرين الثاني 1918 طالبين الهدنة ووقف الحرب بما من شأنه التمهيد للهزيمة الدبلوماسية الكبرى في مؤتمر الصلح بفرساي، كانت قناعة جنود ألمان كثر، ومنهم أدولف هتلر آنذاك، بأن ألمانيا ما كانت لتهزم وتذل هكذا لو واصلت القتال. كيف لا، وهم كانوا كجند لا يزالون يرابطون في الأراضي المحتلة من شمال فرنسا. تطورت هذه النغمة لاحقاً لتصير سردية جنونية كاملة، عن “الطعنة في ظهر الأمة الألمانية”. فتحت هذه السردية الطريق لفوز النازيين بالسلطة، وللحرب العالمية الثانية التي خاضها الألمان على قاعدة إما النصر التام والمطلق وإما القتال حتى آخر رمق في حال الهزيمة. وبالفعل، قاتلوا حتى النهاية. تخلصوا من “عقدة فرساي”. إنما كانت فاتورة هذا التطهر من العقدة مرعبة، عليهم وعلى بقية الشعوب. بل ما زال الكوكب يدفع من هذه الفاتورة، وبالأخص شعب فلسطين، وبمعيته شعب لبنان. المشكلة، ليس أقل من نصف المشكلة، أن هناك من يريد التسويغ للمنطق نفسه الذي اندفع اليه متطرفو القومية الألمانية من موقعهم ضمن مجتمع صناعي، إنما هذه المرة في ظروف مجتمعات كولونيالية، غير صناعية، مهلهلة، لا الأممية الإسلاموية فيها قادرة على تجاوز بالفعل للانقسام المذهبي، وإن ظلت تعمّقه حيناً وتقفز فوقه حيناً آخر، ولا الفكرة القومية استطاعت أن تتكيف وفقاً لنموذج الدولة الأمة، بل تهافتت بالنتيجة، كل أشكال هذه الفكرة وضمرت احتمالات زرع هذا النموذج. الطامة هي أن تعتبر أنك لا تخسر طالما أنت لم تعترف بخسارتك. وربما جاز أمام هذه الطامة ردّ الاعتبار لشيء من سيرة الحروب النظامية مع اسرائيل، بالمقابلة مع تركة الحروب غير النظامية معها. في الحروب النظامية، كانت المكابرة على أسباب وأبعاد الهزيمة متوفرة بكثرة؛ أما المكابرة على المشهد العام، البحت، للهزيمة، فقد أعفانا جمال عبد الناصر منه. لا يعني هذا أننا نعيش هزيمة اليوم. نعيش ما هو أخطر منها. نعيش تحللنا كمجتمعات، فيما هذا يرى في التحلل أوجاع ولادة، وذاك يراها مصارعة مستدامة مع تنين وعدتنا الملحمة أنه مهزوم ولو طال أمد النزال ودُثرت القرى. أقل ما يمكن فعله في هكذا وقت هو القول بأن ما نعيشه ليس مخاضاً ولا ملحمة، والهزيمة لا تقتصر على أدلوجة واحدة فقط، بل على مصفوفة أدلوجات. الحق في الاستمرار بالعيش والأمل اليوم بات مقروناً بالحق الواجبي في الاقتصاد من الأمل، التخفف من معظمه الآن، بعيداً، بل أبعد ما يمكن أن يكونه البعد، عن متلازمة “المخاض والملحمة”. الثملون بالمخاض لا يستقوون إلا بكل أنواع البطش على اعتبارها فاتحة تربية لهذه الشعوب على تقبل العصر و”قيمه الكونية”. أعداؤهم، في المقابل، قد تماثلت عندهم الإرادوية مع طلب العدم.

* كاتب من لبنان
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس -القدس العربي -

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • هل فعلاً سينتهي عصر الميليشيات؟
  • ليس هناك من تطهير إثني «أعمى»
  • هل انتهى الانقسام اللبناني حول «المسألة السوريّة»؟







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي